الكميت الأصيل

ثقافة 2023/06/14
...

آني برو

كان شتاء 1886 - 1887 رهيباً. كلّ التاريخ اللعين للسهول العليا يقول هذا. كانت توجد قطعان عظيمة العدد على أرض تمَّ الرعي فيها أكثر مما ينبغي خلال الصيف الجاف، وفي الشتاء تجمَّد الثلج الرطب المبكر انجماداً قاسياً بحيث لم تتمكن الماشية من اختراق القشرة للوصول إلى العشب، وتلا ذلك عواصف ثلجيَّة عنيفة وبرد يجمِّد العين، وجماعات الماشية المتزاحمة تكوّمت في الجوبات والوديان.
تصرف راعي بقر شاب من مونتانا دون روية، إذ يبدو أنه أحمق بعض الشيء، فلم يشتر معطفاً وقفازات وأنفق أجوره كلها على زوج من الجزمات الأنيقة المعمولة يدوياً. عبر داخلاً مقاطعة ويومنغ ظاناً أنَّ الجوَّ سيكون أدفأ لأنها جنوب المنطقة التي كان فيها. تجمّد تلك الليلة حتى الموت على ضفة (باودر ريفر) الغربيَّة القارصة، ذلك النهر الشهير بأبعاده واتجاهه، عمقه إنج، وعرضه ميل، ويجري من تكساس صعوداً.
في عصر اليوم التالي جاء ثلاثة من رعاة الماشية على خيولهم من مفرزة (بوكس سبرنغ) قرب (سغز)، ومروا بجثته وقد صار لونها أزرق كحجر الشحذ، ونصفها مدفونة في الثلج. كانوا نبيهين وظريفين، ارتدوا معاطف معمولة من البطانيات، وبناطيل صوفيَّة متينة، وأوشحة من الصوف الخام ملفوفة من على قبعاتهم ومن تحت ذقونهم ذات الهلب، وقفازات من جلد الغنم، وكان اثنان منهم محظوظين بما يكفي ليضعا أقدامهما في جزمتين جيدتين وجوارب سميكة. أما الثالث (درت شيتس)، الأحول شرّيب دهن الشعر، فقد كان لا بأس به من فوق ولكن حظه مطيَّن في الأسفل إذ لا يرتدي جوارب وجزمتاه الملتويتان من الأمام مشقوقتان ومثقوبتان. قال شيتس: “يمكن ذاك لحم البقر المجمد يرتدي جزمة على مقاسي”، وترجل من حصانه لأول مرة ذلك اليوم. سحب الفردة اليسرى من جزمة راعي مونتانا ولكنها كانت متجمدة على القدم، ولم تكن اليمنى بأسهل منها”. وقال: “ابن الثور المخصي المريض على كومة ثلج، سأقطعهما وأذيبهما من الثلج بعد العشاء”. أخرج شيتس سكيناً طويلة ونشر خلال قصبتي ساقي مونتانا من فوق الجزمة بالضبط، ووضع الفردتين والقدمين فيهما في حقيبتي السرج، ناظراً بإعجاب إلى الجلد المزين والمدرز من الأعلى بالقلوب ونقشة ورق القمار. ساروا بخيولهم باتجاه أسفل النهر باحثين عن الماشية الضالة فوجدوا دزينة منها غائصة في جروف عميقة وضيعوا معظم النهار محاولين إخراجها. قال أحدهم: “الوقت متأخر للتوجه إلى دار الاستراحة. إنَّ كوخ العجوز غرايس في مكان ما بهذا الاتجاه وسنجد عنده برقوقا مجففاً أو أطعمة لذيذة أخرى أو في الأقل موقداً حاراً يدفئنا”.
كانت الحرارة تنخفض، باردة إلى درجة تطقطق البصقة متجمدة في الهواء ما أن تخرج من الفم، والمرء لا يجرؤ على التبول خوفاً من أن يثبت في مكانه متجمداً حتى الربيع. اتفقوا على أنها أربعون تحت الصفر وأكثر، بينما الريح تعوي عواء لطيفاً لا تسمعه سوى في منطقة ويومنغ. وجدوا الكوخ على مسافة أربعة أميال شمالاً، وفتح العجوز غرايس الباب فتحة قليلة قائلا: “ادخلوا، سواء كنتم رعاة ماشية أو سارقيها، لا يهمني”.
“سنركن خيولنا، أين الحظيرة؟”.
“حظيرة. ليس لدي أبداً. يوجد خلف كوم الخشب كوخ منحدر السقف جدير بأن يحفظها من أن تتفرق أو تتجمّد ربما. لقد جلبتُ أنا حصانيَّ هنا إلى جوار خزانة الأواني. أنا أبذل لهما عناية رهيبة. ناموا حيث يمكنكم، ولكني أحذركم من إزعاج ذلك الحصان الكميت الأصيل فسيسحقكم بأسنانه ويبصقكم. إنه جواد مطهم نشط. اتخذوا لكم مكاناً على الكراسي وتناولوا شيئاً من هذه اليخنة بنت القحبة، ولدي الكثير من الشراب ليسهل بلعها، وقد خرج البسكويت للتو من الموقد”.
كانت أمسية رائعة عامرة بالأكل والشرب ولعب الورق وتبادل الأكاذيب، والموقد يلفظ الحرارة، والعجوز غرايس يدلل الحصانين المتنعمين بالراحة، لكنَّ الجانب الكريه من وجهة نظر رعاة البقر أنَّ ضيفهم كنس جيوبهم، إذ أخذ منهم ثلاثة دولارات ونصف الدولار.
بحلول منتصف الليل أطفأ غرايس المصباح وتمدد على سريره، وتمدد سائقو الماشية الثلاثة على الأرضيَّة. ركن شيتس غنائمه خلف الموقد ووضع رأسه على سرجه ونام. استيقظ قبل نصف ساعة من الفجر متذكراً أنه يوم عيد ميلاد أمه، وإن كان يريد إرسال برقيَّة تهنئة عليه أن يجري بالحصان أسرع من برق السماء لأنَّ مكتب أوفرلاند يغلق عند الظهر. تفحص غنائمه المروعة فوجدها لانت وسحب الجزمتين والجوربين من القدمين الأصليين ولبسهما، ورمى قدمي مونتانا العاريتين وجزمتيه هو القديمتين في الركن قرب خزانة الأواني، وانسل كالريشة الساقطة، وأسرج حصانه وامتطاه مبتعداً. كانت الريح خفيفة وأنعشه الهواء البارد اللطيف.
استيقظ العجوز مع شروق الشمس يطحن حبوب القهوة ويحمص لحم الخنزير المقدد. رمق ضيفيه المتكورين وقال: “القهوة جاهزة”. داس الحصان ورفس شيئاً بدا كأنه قدم إنسان. ألقى العجوز غرايس نظرة أقرب وقال: “هذه بداية سيئة لليوم، إنها قدم إنسان وهناك الأخرى”. حسب الضيوف النائمين فلم يجد غير اثنين منهم. قال: “استيقظا يا ناجيان، استيقظا من أجل الرب وقوما”. استدار راعيا الماشية وحدقا بنظرة استياء إلى العجوز الذي كان يرغو وهو يشير إلى القدم على الأرضيَّة خلف الكميت الأصيل. صرخ بالكميت الأصيل: “لقد أكل شيتس. آه، لقد عرفته حصاناً غير ودي، ولكن أن يأكل رجلاً بلحمه وعظمه، أيها التافه المتوحش”، وقاده إلى الخارج في البرد القارص. قال له: “لن تأكل أبداً لحماً بشرياً بعد. ستنام خارجاً مع العواصف الثلجيَّة والذئاب، يا عفريتاً مصيره جهنم”. لكنه في قرارة نفسه كان مسروراً لأنه يمتلك حصاناً من الإقدام بحيث يأكل راعي بقر نيئاً.
كان ما بقي من فرسان بوكس سبرنغ مستيقظين ويحتسيان القهوة. نظرا شزراً إلى العجوز غرايس وهو يتوقف عند حزامي مسدسيهما.
“آه يا فتيان، من أجل الربّ، كان حادثاً مروعاً. لم أعلم كم هو حيوان وحشي الحصان الكميت الأصيل ذاك. فلنبقِ ما حدث سراً بيننا. كان شيتس بلا قيمة ولدي نحو أربعين دولاراً ذهبياً والثلاثة دولارات ونصف الدولار التي أخذتها منكم بالأمس. كُلا لحمكما المقدد ولا تخلقا مشكلة، إذ يوجد ما يكفي من المشكلات”.
كلا، لم يكونا ليخلقا مشكلة بل وضعا النقود الوفيرة في حقيبتي سرجيهما، وشربا آخر كوب من القهوة الساخنة، وأسرجا حصانيهما وركباهما سائرين في الصباح المبتسم ابتسامة عريضة. عندما قابلا شيتس تلك الليلة في دار الاستراحة أومأ كل منهما له مهنئين بعيد ميلاد أمه ولكنهما لم يقولا شيئاً عن الكميت الأصيل أو الثلاثة وأربعين دولاراً والنصف، وبقي عِلْم الحساب مرتاحاً.