ميساء الهلالي
ركن شارعنا كان أشبه بسوق صغيرة قبل أن تضج الشوارع بالأسواق والمحال الكبيرة.. كان حجي عبد الرجل السبعيني ذو الابتسامة الرائقة يعتمر كوفيته وعقاله ويزاول عمله في دكانه الصغير الذي يبيع فيه الخضار بعد أن هدم جزءا من حائط منزله الخارجي ليبني دكانا يعينه لإعالة أسرته الكبيرة، تساعده في عمله زوجته الحاجة أم حسن المرأة القصيرة القوام عذبة اللسان ترتدي السواد منذ سنوات طويلة، حزنا على رحيل ولدها الذي خطفه عصف الحرب باكرا تاركا خلفه زوجة مكلومة وثلاثة من الأطفال كان حل أم حسن الأمثل للحفاظ عليهم تزويج ابنها الأصغر من زوجة ولدها الشهيد، فهي فقدت ولدها ولا طاقة لها بفقدان أولاده.. تعودت أمي على التسوق من دكان أبي حسن وتعودت كعادة آخر العنقود أن أكون لصيقة بها حتى عند ذهابها لدكان أبي حسن، بل إنّني أتعمّد الذهاب معها لأظفر بقبلة أم حسن وكلماتها الأثيرة القريبة إلى قلبي حين ترد السلام بلهجتها الجنوبيَّة المميزة "هلا يروحي، هلا يبعد عيني".
مرت السنوات سريعة جدا حتى صرت الفتاة الجامعيَّة التي تلقي التحية على حجي عبد وزوجته من دون الحاجة للاختباء خلف عباءة أمها، وبقيت أم حسن تسألني كلما تراني "شلونج بالمدرسة" وأخبرها بأنني صرت طالبة جامعية فتضحك بخجل مخبئة أسنانها المتساقطة بكف يدها وتقول" كلها مدرسة".
كان حجي عبد وأم حسن أبسط من كتب المدرسة وكراسات الجامعة وندوات المثقفين وجمعيات حقوق المرأة.. كان حجي عبد أميا ولكنه أحسن معاملة أم حسن كمن قرأ عن حقوق المرأة طيلة سني حياته السبعين، كان يسميها سندي، نصفي، أم بيتي فترد أم حسن بخجل يعيدها شابة في مقتبل العمر "كافي حجي عيب كبرنا".
قادني فضولي في إحدى المرات لأسأل حجي عبد عن زواجه من أم حسن إن كان تقليديا أم أحبها قبل الزواج فأجابني بعد أن ارتسمت ابتسامة كبيرة على شفتيه المجعدتين "كانت جارتي طلبتها للزواج بعد النظرة الأولى فقط.. ليست كل الأشياء مرتبطة بالحب يابنيتي فحسن المعاشرة والاحترام ومساندة بعضنا البعض تفوق الحب بدرجات".
وفي صباح خريفي حمل معه كل أنواع الألم هرعت أمي راكضة نحو منزل حجي عبد حين سمعت صرخات نسوية منبعثة منه تنبئ عن وفاة أم حسن بشكل مفاجئ بعد أن فشلوا في إيقاظها من نومها.. أم حسن أبكت كل نساء الحي برحيلها وحولت حجي عبد إلى جسد بلا حياة مسلّما زمام إدارة الدكان إلى زوجة ابنه الشهيد وولدها واختار ركنا لينزوي به يتفرّج على المارة بينما تفيض عيناه دمعا لم ينشف ليخبر الجميع بحجم افتقاده لرفيقة عمره.. لم يطل الحال بحجي عبد حتى لحق بأم حسن بعد عدة أشهر فقد خارت قواه ولم يطق طعما للحياة من دونها.. رحل تاركا درسا كبيرا لكل من عرفوه.. فالالتحام الروحي أشد قوة من الحب.. وهو إلتحم بزوجته روحيا حتى رفض الحياة من دونها ولحق بها مشتاقا للقاء أبدي في عالم آخر.