حازم رعد
مفهوم المجال العام من أهم الموضوعات التي ألمح اليها الفكر الفلسفي وقدم لها تنظيرات مستفيضة؛ نظراً لاهميته في تشكيل المنطقة الوسطى النوعية الواقعة بين مختلف الطبقات الاجتماعية وطبقة السلطة والدولة، ويعني ذلك أن هذا المجال من تمثلات الافكار الفلسفية كتطبيقات واجراءات في الواقع العملي للانسان، وحديث المجال العام يقودنا الى اسماء لمعت في مجال هذا التنظير أبرزهم كارل ماركس ومن بعده كل الفلاسفة والمفكرين الذين كتبوا على غرار الفكر الماركسي، وكذلك المنظرة السياسية حنة ارنت والفيلسوف الالماني يورغن هابرماس وغيرهم كثر، ومعلوم انه من جملة فئات الطبقة الوسطى والتي قد تسمى "بالمجتمع المدني" التي هي موضوع للمجال العام، هما الطلاب والعمال إذ هما العصب المهم للنشاط السياسي والاجتماعي، واللذان يشكلان عصبا مهما في هذا المجال، وقد حملت تلك القوتان رايات الثورات والاحتجاجات في بلدان عديدة وحققتا اصلاحات احياناً وضغطاً معتداً به على الحكومات في احيان أخرى.
إذن، إن الحديث النظري عن المجال العام أو الفضاء العمومي الذي يشتمل على النقابات والاتحادات والمجتمع المدني حديث فلسفي بامتياز، أو هو حديث على هامش متون الفلسفة التي قدرت لقوة ومكانة ومتانة فعل هذين القوتين الطلاب والعمال، وكما أن الكلام عن امكانية الضغط والتأثير الذي تحدثه هاتان القوتان في الحقل السلطوي هو حديث سياسي في آن، فنحن نتكلم عن فعل التغيير داخل اروقة السلطة وفعل السياسة كونهما بمنزلة تطبيق النظرية الفلسفية في الفضاء السياسي.
ولأنَّ مدخرات الفلسفة في هذا المستوى من التنظير لا تنضب سنحاول تسليط الضوء على جزئية من حصص المجال العام واقصد بذلك النشاط النقابي الطلابي والعمالي من ناحية الاهمية والجدوى.
إنَّ العمل النقابي الطلابي كما العمل النقابي العمالي والمهني ذخيرة ستراتيجية حيوية للعمل الحزبي والسياسي كما يصف ذلك عبد الاله بلقزيز فهذا اللون من النشاط يصعد من فاعلية الديمقراطية والوعي بها كممارسة ويذيع اجواء النشاط السياسي في أهم قطاعين هما الجامعات ومؤسسات العمل المهني، إذ إن رفع اهمية هذين النشاطين تكون في انهما مناطق وسط بين الدولة والحزبية والمجتمع الاهلي ككل، وهما مستوعبان لمخزون بشري متحرك بين الطبقات المختلفة من المجتمع يحرك معه ركود المجتمع ويقدم خدمات معرفية ثقافية وجوا من الممارسة الديمقراطية بالمجان، فضلاً عن كونهما قوى ضغط من المستوى الرفيع، حيث يمكن تسخيرهما في النشاط الاحتجاجي الضاغط الذي هو الاخر عمل شبه سياسي لأنه مرتبط بها مباشرة، والدولة التي تأفل فيها مثل هذه القوى والفاعليات غالباً تفتقر للوعي الديمقراطي وتتقوّض فيها مناسيب الحريات المختلفة ويكون فيها العمل السياسي والحزبي مقتصراً على فئات وعائلات اجتماعية معينة، مما يمكن من تسرب الجهل بالنضال السياسي واستفحال الاستبداد كطريقة تختزل الحقيقة وتدير دفة الدولة والمجتمع معاً "ومن هذه الزاوية يبدأ انبلاج التوتاليتاريا" الشموليات على مستوى الفكر والنظام. إنّ العمل السياسي له عدد وآليات ويتسلسل بالتاريخ تدريجياً وهو مع ذلك بحاجة الى تنظيم ومنظم "القادة المفكرين والفلاسفة" الذين أقصوا من المشهد واستُبدلوا بطفيليات تعتاش على افكار وتجارب الآخرين التي غالباً ما استهلكت واستنفدت طاقتها وما عادت فيها الامكانية على التحيين أو التبيئة، إن غياب "الرجال المنظرين والفلاسفة الأفذاذ" يسهل درب وصول الايديولوجيين والذين ينتهزون الفرص من المثقفين النطاطين الذين يتقافزون بين الأقنية بأقنعة الثقافة لفرض سيطرتهم وتقديم مشورات وتنظيرات سيئة، تبين سلبيتها في ميدان العمل والممارسة، وإن أدعي أن الخطأ تجربة يمكن الافادة منها "وهذا فيه وجه حق" ولكن مثل اولئك لا يقدرون حجم الهدر بالوقت والجهود واضاعة الفرص التي راحت هدراً مع صعود اولئك الانتهازيين وتربعهم على عرش التفكير الحزبي "الذي هو محل حصري للمفكرين الأفذاذ". وعوداً على بدء فإنَّ تنشيط العمل النقابي للقوى الطلابيَّة والعماليَّة شرط لسياسة صحيحة فاعلة في مشوار نشر الوعي وتثبيت قيم الاعتراف والمساواة والحرية، وكذلك هي فاعلة على مستوى الضغط الجماهيري فإنّ تلك القوى بما تشكله من موارد بشرية ثرية تشكل عامل ضغط كبيرا على الحكومات في الاذعان والتغيير والاصلاح وتحرك الراكد فتسهم الى حد كبير جداً في تشييد أسس الدولة واصلاح المؤسسات واجهزة السلطة وتعزز قيم النضال السياسي في البلد.
لقد كان لهذه الفعاليات في ثلاثينيات واربعينيات القرن العشرين وما بعدهما بوقت ليس بالقليل الدور الريادي في العالمين الغربي والعربي وشهدت جراء ذلك الدور تقدما هائلا على جميع الصعد والأبعاد السياسية والاجتماعية، إذ إن ذينك القوتين انخرطتا تماماً في صناعة السياسة وموَّلتا العمل الحزبي باللازم من الطاقات والكفاءات وقدمتا للسلطة نماذج رائعة من المهنيين والتكنوقراط الذين يتمتعون بالحيوية والثقافة والتخصص، ولكن ما جرى هو ان العالم العربي أصيب بالتراجع في هذا الفضاء العمومي المهم وبدأ النشاط النقابي بالضمور والضعف من جهة وسيطرة الايديولوجيات عليه من جهة ثانية، ما جعل هذا النشاط يمشي بطريقة عرجاء وينظر بعين عوراء وهي باصرة المصالح الجهوية والمكاسب الشخصية، ومع ذلك انحسر الوعي الاجتماعي وقل النشاط السياسي عند الطبقات والفئات الاجتماعية الأخرى.