النظام العام والأداب العامة

آراء 2023/06/18
...






 فارس حامد عبد الكريم

تتبنى جميع التشريعات مبدأً عاماً يشمل بحكمه كل فروع القانون، مفاده بأن كل ما ‏يخالف النظام العام والآداب العامة يعتبر ‏باطلًا وغير مشروع.
والنظام العام معيار كلي مرن ونسبي، وهو معيار كلي، لأن قوامه حماية المصالح السياسية والاقتصادية ‏والاجتماعية العليا السائدة في المجتمع، فهو فكرة سياسية في الأصل، لأنه يُعين على ‏تحقيق الهدف، الذي يبتغيه كل نظام قانوني، لا الوسائل الفنية كالجزاءات، ‏التي أعدها ‏القانون للوصول إلى ذلك الهدف، وهو معيار نسبي، لأن مضمونه يتغير بتغير الزمان والمكان.
فالمثلية في المجتمعات الغربية كانت لعهد قريب تعتبر انتهاكاً للنظام العام والأخلاق الكنسية، ثم حدث تحول مفاجئ بالاعتراف بها، رغم أنها في الواقع تتعارض مع الحياة الطبيعية، لكل الكائنات البشرية وغير البشرية. ثم أنه معيار ‏مرن يدرجه المشرع دون ضبط، فأُعتبر فكرة على بياض يتولى القاضي ملء ‏مضمونها، وفقاً للأفكار السياسية ‏والاجتماعية السائدة وقت نظر النزاع لضمان حسن سير الحياة الاجتماعية، إلا أن ‏القاضي لا يملك أن يحل معتقداته الشخصية محل معتقدات ‏وقيم الجماعة نفسها‏، فيعتبر تحديد مضمونه مسألة قانونية، تخضع لرقابة محكمة ‏التمييز كضمانة مهمة تَضمُن إقامة هذا التحديد على أسس موضوعية لا ذاتية.
وهو معيار اجتماعي يُدركه الافراد عادة في وقت مبكر من العمر، اذ يضبط دورة حياة التنشئة الاجتماعية، ويحدد القوالب النمطية لذلك المجتمع، وفق ما تحدده ثقافته المحلية في زمن محدد، بما ويتوافق مع توقعاتهم للسلوك المطلوب من كل فرد في المجتمع.
فالمجتمعات المتحضرة تتمسك بشدة بمبدأ (القانون هو القانون)، بينما تتمسك المجتمعات الأدنى حضارياً، بالأعراف القبلية أكثر من تمسكها بالقانون، مما يولد خللاً اجتماعياً واضحاً يتعارض وفكرة النظام العام، التي تدعم نظام الدولة الحديثة دون نظام القبيلة السابق للدولة.
وهذا واضح في العراق أكثر من اية دولة أخرى، اذ قام البعض بتحريف العديد من التقاليد القبلية الأصيلة، لأغراض الابتزاز المبالغ به إلى درجة كبيرة، مما يعرض حياة المواطنين وممتلكاتهم وتماسك الاسرة للخطر، مما يتطلب معالجة الأمر بقوانين صارمة.
وغاية الفكرة حماية المصلحة العامة والمجتمع‎ ‎ومؤسساته ‏من الانهيار،‎ ‎ولذلك نجد أن متعلقات النظام السياسي، كالحريات العامة وشكل الحكم وسلطات الدولة ونظامها الاقتصادي، وما يرد عليه من حرية أو قيود على التداول النقدي وأسعار صرف العملة والتجارة الخارجية، هي من النظام العام.
وكل ما يتصل بكيان الأسرة من زواج وطلاق ونسب ونفقة وقرابة، نظراً لاتصالها بالأسس الاجتماعية للمجتمع.
أما الآداب العامة، فهي مجموعة القيم والمعايير الخلقية، التي يقوم عليها النظام ‏الاجتماعي في زمان ومكان معينين.‏
وهي الاخرى معيار كلي مرن ونسبي، قوامه الأخلاق العامة، التي تُمثل الضمير العام ‏للجماعة، وفكرة أخلاقية نفذت ‏إلى الفكر القانوني فاكتسبت طابعاً عملياً، ومن ثم ‏ليست هي الأخلاق المثالية، التي ينادي بها الفلاسفة ورجال الدين، بل هي ‏الاخلاق ‏العملية المتوسطة التي تشمل ما يتصل بالناموس الأدبي، الذي تحرص ‏الجماعة عليه في العلاقات ‏بين الافراد وتمنع انهياره. وكلما اقترب المجتمع من التحضر أكثر ارتفع ‏المعيار الخلقي النمطي وزاد التشدد فيه، كتقديس النظافة واللياقة في السلوك والتعبير.‏
وبما أن نطاق القانون يختلف عن نطاق الاخلاق، فإن هدف المشرع ‏من تبنيه لفكرة الآداب العامة ليس ‏الرغبة في الارتفاع بالجماعة إلى مستوى الكمال ‏الخلقي، وأنما يقصد بذلك الا يمنح حمايته للتصرفات التي تكون مخالفة ‏للآداب. ‏ وتعد فكرة النظام العام والآداب العامة المنفذ الذي تنفذ منه العوامل السياسية والاقتصادية ‏والاجتماعية إلى النظام ‏القانوني لتلائم بينه وبين التطور الاجتماعي.‏‏ وترد صياغة معياري النظام العام والآداب العامة في التشريع دون ضَبط وبقصد أن يكونا على قدر من ‏الغموض، حتى يكملا ما فات القانون من نقص وقصور، ويعطيا معايير واسعة لكل ما يجب اعتباره غير مشروع ‏ولو لم يرد نص بتحريمه.‏‎ ‎
وتنطوي فكرة النظام العام على أربعة عناصر: ‎
‏1- الأمن العام: وهو مجموعة القواعد القانونية والاجراءات الواجب اتباعها للمحافظة على ‏السلامة العامـة لأفراد المجتمع، ومنع المخاطر التي تهدد حياتهم وممتلكاتهم.
سواء كان مصـدرها ‎‎الطبـيعة كالزلازل والفيضانات، أو بفعل الإنسان كالجرائم ‏، أو الحيوانات السائبة، والتظاهرات غير السلمية التي تخل بالامن الـعام مما يخول السلطات معالجتها ولو بالقوة‎.
‏2- السكينة العامة: وهي مجموعة القواعد التي تحمي الإنسان في حياته‎ ‎اليومية، بحيث توفر له سبل الاستقرار والراحة و الهدوء.
 مما يوجب على السلطات القضاء علـى ‏الأسباب التي تزعج المواطن و تقلقـه‎ كمعالجة الازدحامات ومكافحة الضوضاء ومنع التجاوزات على الأرصفة ومعالجة
 التسول.‏‎‎
‏3- الصحة العامة: وهي مجموعة القواعد التي توفر الوقاية للمواطنين وتحميهم من المخاطر‎ ‎الصحية كالأمراض والأوبئة.
‏ مثل بناء المستشفيات وتوفـير الأدوية واللقاحات ورفع النفايات وتفتيش المحال التجارية المتعلقة بالصحة العامة.
‏4- الآداب العامة: ويقصد بها وضع القواعد التي تنظم السلوكيات العامة في نطاق القيم الخلقية وثقافة الشعب الأدبية التي يتطلع للحفاظ ‏عليها.‏
ومن ذلك مراقبة الوسائل ذات الطابع الثقافي، كالأفلام‎ والمجلات ومواقع التواصل الاجتماعي، التي تروج لأفكار شاذة وهابطة وغلق الاماكن المشبوهة..
وحتى لا تتحول فكرة النظام العام والآداب العامة إلى وسيلة لتكميم الافواه وقمع الحريات العامة فإن من يقرر مفهومها ونطاق مخالفة عناصرها هو القضاء حصراً.

النائب الأسبق لرئيس هيئة النزاهة الاتحادية