الرصاصة حين تغدو حلماً متكرراً
جينا سلطان
تقوم لعبة ماريو، التي راجت في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، على مبدأ الحيوات الثلاث التي تمنح لأنموذج مشخصن متحرك يدعى ماريو، كي يواجه من خلالها تحديات وعقبات تعيقه عن الفوز بالمكافأة المعادلة للفردوس، وفي الوقت نفسه يجمع النقاط في رصيده ليحظى بحيوات إضافية يستفيد منها عند اجتياز المراحل النهائية الصعبة. وتلك الحيوات المستنسخة من مبدأ التقمص تعطي إحساسا بالأمان لدى اللاعب المبتدئ وتشجّعه على الاندفاع والتهور فينتهي بالخسارة السريعة، بينما يستدرك المتمكن ماهية الفخ الذي تقوم عليه اللعبة، التي تجسد محاكاة رمزية للملهاة الإنسانية عند بلزاك ووليم سارويان على سبيل المثال لا الحصر.
في الكارما تتحول خبرات الدرس الإنساني إلى مهارة تظهر عند الاستعمال المدروس للحيوات المضافة، وهذا ما يتم توظيفه لصالح القفزات الانتحارية لماريو أثناء عبور السلالم المحروسة بالأفاعي والمعادلة لصعوبات تجاوز عتبات الإدراك الحدية. ويبرز أثناءها التحكم بالنفس وقوة الإرادة لتجاوز مآزق الزهو والإعجاب بالنفس، التي قد تحدث أثناء الخلوة عند المعتكفين الزاهدين الذين بلغوا أعلى مراتب الحكمة وقطفوا ثمار التأمل، فراودتهم شُبهة الغرور، حين تناسوا أنه «لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون».
أما الأطفال الذين لم يتسنَ لهم أبداً إكمال اللعبة، وتأمل ميزاتها لاحقاً في مرآة الزخم الوجودي المكثف، فقد وقعوا في مطب الحياة الواحدة، بكل ما تحمله من آمال وأحلام مجهضة بفعل العنف والقسوة، المطوقين للتجربة الإنسانية. وثمة طفلة في رواية «كيف قتلت أبي» للكاتبة الصحفية الكولومبية سارة خاراميو كلينكرت، توقفت في منتصف اللعبة، حين اغتالت رصاصة والدها، فعلقت في مصيدة الحياة الوحيدة، فتضاعف حزنها وازدادت عزلتها، حتى دفنت فقيدها بين دفتي رواية كي تعيش حياتها.
لم تخرج سارة في روايتها من جلباب أبيها، المحامي المبدع الذي عرف الكلمات وتحدث بها مبتكرا عالمه الخاص. لكنها في الوقت نفسه، استطاعت أن تمنح القارئ إحساسا بالغنى الداخلي رغم مأساوية الحدث الذي التفت حوله، فنجحت عبر الاختزال المدهش للمشاعر والأحاسيس في إيصال هواجس الطفلة التي كانتها، من دون الحاجة إلى السقوط في مطب الرثاء للذات عبر التكرار الوصفي والاستطرادات غير المجدية. ومثلما استقطب الأب اهتمام طلاب القانون وأستاتذته فتابعوا منازعاته القضائية عن كثب، ومعهم صحافيون وأناس عاديون، كذلك حظيت روايتها بالمتابعة الكبيرة عند صدورها في مدريد بإسبانيا قبل ثلاثة أعوام.
تبتدئ الرواية بحلم الرصاصة المتكرر، الذي يعنون استلاب الإنسان ووقوعه تحت نطع العنف والتهميش. ويشكل جواب سارة ذات الأحد عشر ربيعا عن السؤال الذي وجهته لها معلمة العلوم حول تعريف وحدة القياس (السنتيمتر)، والمتمثل بالمسافة التي يجب على اصبع أن تقطعها كي تضغط على الزناد، تعريفا مناسبا لشكل العيش مع وقف التنفيذ. فتلك المسافة المنذرة بالقتل تطبع إيقاع الجمل القصيرة التي ترسم مشهد الحياة في مدينتها ميديين بكولومبيا، حين انفجرت القنابل وقتل الناس وأصبح الوقوف إلى جانب دراجة نارية أخطر شيء في الوجود. آنذاك كان الحظ الجيد يعني اكتفاء اللصوص بسرقة السيارة، من دون قتل صاحبها من أجل سرقتها. ويبلغ الاستلاب منتهاه حين تصف سارة القتلة المأجورين بالأطفال القادمين من قرى صغيرة والذين ليس لديهم شيء ليخسرونه، فقط مال قليل يكسبونه بالضغط على الزناد. وهؤلاء لا ولاء لهم إلا لبابلو اسكوبار، كي يستمر في توفير العمل لهم، وللسيدة العذراء كي تضبط رمايتهم.
أحد هؤلاء يوجه سلاحه نحو سارة، أثناء توقف سيارتهم عند إشارة المرور، لكنه لا يطلق النار، فتظن الطفلة بأن البقاء على قيد الحياة يعادل رغبة المرء التي تتحقق ما إن يطلبها وهو ينظر إلى عيني الشخص، كما شاهدتها في فيلم أمريكي. وعقب مقتل والدها يصبح هاجسها البحث عن أمها إبان السهرة على جثمان الميت، كي تنظر إلى عينيها وتكف عن كونها غير مرئية، بعد أن تجنب الأقارب النظر إليها لكيلا يضطروا للرد على أسئلتها، وتحديدا السؤال الأكثر إيلاما: لماذا؟
ومع أن الرواية تنتمي إلى نمط السيرة الذاتية، التي كتبت عقب مرور ثلاثين عاما من واقعة اغتيال الأب، لكنها تتصف بالتحليل النفسي الدقيق لمشاعر الأطفال الخمسة، وتتطرق إلى الكيفيّة التي واجهوا بها العدائية والشفقة على حد سواء. بداية من الالتفاف حول حقيقة عدم قبول الإنسان لمبدأ الغياب، واضطراره إلى تقبله في النهاية، ليتوارى الأب إلى شبح يطل من الزوايا حتى يتقلص إلى مجرد ذكرى. ومرورا بقضم سارة لأظافرها باستمرار، وتعاظم هلعها عند قدوم المساء. وانتهاء بالجزع الذي يقذف الإخوة في جحيم الخوف والغضب المتأتي عن الإحساس بالقهر والعجز. فلا يجدون وسيلة لتنفيسه أفضل من المشاجرة وشد الشعر، حتى يصبحوا في مرات عديدة عصبة حيوانات متوحشة يترصّد بعضها بعضا بين أشجار مزرعتهم، أو فوق سقف منزلهم. وعلى غرار الحيوانات الجريحة كانوا يعمدون إلى إخفاء ألمهم، والبكاء منفردين، كيلا يلفظهم القطيع، أما الهشاشة فدأبوا على معاقبتها بقسوة، كيلا تتمكن رصاصة واحدة من اختراق أجسادهم. فقد باتوا يعرفون أن الحياة قد تضيع من المرء في لحظة، فلم يرغبوا بالظهور في هيئة الذين يسهل انكسارهم.
تبتعد سارة عن إخوتها الذكور حينما يتبدى ضعفها البدني، وتغدو غير قادرة على الفوز بأي شجار، ومع اتساع الفوارق بينها وبينهم بصورة كبيرة، يقل غضبها ويتضاءل اهتمامها وتنكمش رغباتها واهتمامها حتى تزداد شبها بأمها، وتصبح هادئة ومنعزلة. وبعد أن كانوا خمسة إخوة، صاروا أربعة، واختفى الغضب والخوف والضيق، وكذلك غاب وجود الأطفال في حياتهم، لأن أيا منهم لم يرغب بأن تكون له ذرية، وتلك هي أكثر جوانب الاستلاب إيلاما؛ قتل المستقبل.
يثبت الغياب أنه حفرة لا نهاية لها، فيتقاسم الإخوة الخمسة ثقل الصمت الذي ينسج ويحبك شباك العزلة من حولهم، فتلتهم سارة الكتب وتلوذ بها لتتحول مع الوقت إلى صورة عن أبيها. بينما يستسلم شقيقها بابلو للمخدرات، فيغدو هائجا عنيفا، لا يحترم أي قواعد، وبعد أن كان شاباً متفوقاً نال مرتبة الشرف في القانون، ظل ينطفئ كالشمعة حتى وجدوا جثته على جانب الطريق. ومع أن اتخاذ دور الضحية كان أسهل، إلا أن صلابة الأم وتماسكها ولعبها دور الأب أيضا حالا من دون ذلك. فدأبت سارة على مقارعة الألم بالضحك، كيلا ينتبه أحد إلى وجهها الحقيقي، ولجأ أخوها دابيد إلى الفن والتصوير وعاش داخل سحابة، ليس لها مدخل، محاطا بألوان لم تبتكر أصلا، أما توماس صاحب الروح النقية فانزوى داخل غرفته في المنزل، فيما اتكأ سانتي على الرسم حتى أصبح طبيبا.
تواجه سارة مشكلة إدمان المخدرات بعد سنوات طويلة من التجاهل العائلي المتعمد لها، سواء في حالة الخال خابيير أو شقيقها بابلو. ورغم تيقنها من تشابه قصص مدمني المخدرات باستثناء تغيرات طفيفة، إلا أن رؤيتها لوجه خابيير في وجوه كل الأطياف عديمة الشكل المبعثرة فوق الرصيف حول المشكلة إلى كابوس. ومع أنه أصيب بكل الأمراض، طعن وضرب وتعاطى جرعات زائدة، لكنه لم يمت. فبقيت تتساءل عن العبثية المتجسدة في بقاء خابيير على شفا الموت طيلة حياته التي ناهزت السبعين، ورحيل والدها المبكر بفعل طلقة واحدة.
يتخذ كابوس الإدمان صورته المخيفة من منطلق البعد العدمي، حين تكتشف سارة في عيني بابلو عند تلاقي نظراتهما وسط الشجار أنه فارق طبيعته الطفولية المرتكزة على المحبة والحنان. عندها عجزت عن معرفة الغريب الذي تحداها بعينيه شديدتي السكون والجحوظ، إلى درجة بدا معها كأنهما ستنطلقان كرصاصتين. ففي تلك اللحظة نظر إليها بكره، وبازدراء هائل، لاحقها ثقله طوال حياتها، إذ وجدت نفسها تفكر في أمور غريبة تحت تأثير عينيه. ومن ثم أخرج بابلو أسوأ ما فيها، وجعلها تنظر إلى أكثر الأماكن ظلمة داخلها، وجعلها تجتاز مساحات تمنت ألا تجتازها مرة أخرى، رغم إدراكها بوجودها لكونه أظهرها لها. بالمقابل، جعلها هذا التفكير أكثر إنسانية وواقعية، فاستقر نبض بابلو المترقب داخلها ليعلن أن كل شيء وارد الحدوث في أية لحظة. وأصبح حضوره ماثلا في كل الأنحاء لأنه لم يخرج من رأسها قط، حتى توقف خيالها عن حبك القصص في اليوم الذي وقع فيه الأمر حقا.
وبسبب الغياب المأساوي للآباء وكنتيجة له، يبحث المرء عن أخلاء أكبر منه بكثير من دون أن يدرك. لكن سارة تمكنت بفضل شريكها الذي يعادل الأب البديل، من مواجهة الهجران الذي لازمها منذ الحادية عشرة من عمرها. ومن خلال دعمه وتشجيعه بدأت في قتل والدها بالكلمات، بعد أن استنزفتها محاولات إبقائه حيا في رأسها، ليعود حيا بين دفتي الرواية، فيحمل العزاء أيضا لشاب قتل والده بالخطأ نيابة عن المحامي، قبل أن يستدرك القتلة الأمر ويغتالوه.
يقترن الهجران بالتخلي، فيما ترتبط الكلمات التي تتعاطى معه بمواجهة الذات، وبمحاولات انتشالها من هوة الغياب والفراغ، كما تأتى للروائية الإيطالية إيلينا فرانتي حين تجاوزت مأزق الخيانة بالكتابة، فتوازنت النفس مع خساراتها ونجحت في عبور الضفة المظلمة، حيث يختبئ جلد الذات وتتماوج الكراهية مع المشاعر
العاطفية المجهضة.