ماذا يريد الإنسان حقاً؟

آراء 2023/06/19
...

 رعد أطياف


 أورد المترجم السوري محمود منقذ الهاشمي في مدونته الشخصية اقتباساً بالغ الأهمية للطبيب النفسي النمساوي فيكتور فرانكل يقول فيه « ليس الشاغل الرئيسي للإنسان هو الفوز باللذة أو تجنّب الألم، بل أن يرى معنى في حياته. 

وهذا هو السبب في أنه مستعد حتى للمعاناة، شريطة أن يتيقّن من أن لمعاناته معنى». 

وهو درس وجودي غاية في العمق. ذلك لو نظرنا إلى نشئة الفلسفة والعلوم والفنون والحضارات، باختصار، كل أمر عظيم، سنعثر على مشترك يربط كل هذه المراحل وهو الألم. بمعنى آخر: لم تقم لهذه المراحل الإنسانية العظيمة لولا مواجهة الألم وجه لوجه. ينتقد نيتشة هؤلاء الذين يكون شغلهم الشاغل هو السعادة، فيهاجمهم بقوة ليثبت أن الأشياء العظيمة لا يمكنها أن تظهر لولا الألم، ذلك أن الحياة هي فعل اقتدار، وهذا الأخير يعني ما يعنيه أن تُسلَّط شدّة ما على الفكر، على سبيل المثال، لتخرج كنوزه النفيسة. إبداع المفهوم لا يحدث في لحظات وادعة ومريحة، بل هو حركة شديدة من الفكر ليتمكن من هذه العملية الإبداعية، أما الآخرون يفتقدون لهذه الشدة التي هي مصدر نفورهم بالأساس. أينما ذهبنا سيقف الألم أمامنا كطاقة مولّدة ودينامية عظيمة لحركة الأشياء. بل ربما يصح لنا القول هكذا «أنا أتألّم إذن أنا موجود». وليست الشدّة أو الاقتدار ينحصر تأثيرها على القضايا النظرية فحسب، بل يمتد مفعولها إلى عموم الحياة؛ رفع الأثقال معاناة، لكنّه ينتج راحة جسدية وبناء عضلي، والبناء الهندسي الجميل لم يحدث لولا الجهد الكبير الذي بُذل لهذا الغرض، وكذا باقي الأمثلة الحياتية، فلا يكاد ثمة استثناء ما لم تتخلله المعاناة. هذه الأخيرة يتخلل مسامات وجودنا برمّته. لكن لا بد من استثناء، واستثناء كبير! وهو عموم الناس. لأنهم، وببساطة شديدة، لا يستخرجون المعنى عن طريق الألم بقدر ما تحدث لهم انتكاسات هائلة وتغدو بمرور الزمن عادات متأصلة تعزز فيهم روح الضغينة تجاه الواقع بكل تفاصيله. حينما يضطرب الذهن لا يبحث عن مصادر إبداعه والسموّ بها إلى أبعد نقطة، بل يبحث عن أهم النقاط المرجعية التي تعزز من جنونه! سيبحث في رفوف ذاكرته عن كل لحظة مجنونة جرت في الماضي، ليضمن ديمومة هذا الجنون وإطالة أمد جرحه النازف. معظم المرضى النفسيين، والمجرمين، والناقمين على الحياة، والفاسدين، وذوي الضغائن، والغوغاء- هؤلاء افترسهم الألم وجعلهم أرضاً محروقة لشتى السموم النفسية. بدلاً من أن يستثمروا معاناتهم لفعل إبداعيٍ ما؛ بدلاً من تحويل الألم إلى طاقة تحليق للأعالي اضرموا بواسطته النيران. 

يمكنك أن تستخدم الوقود كطاقة مولّدة أو وقود لحريق يلتهم الأخضر واليابس، وهذا ما يحدث لعموم الناس مع الأسف الشديد، وتناسوا أن وجودنا برمّته معاناة وهي ليست استثناء على الإطلاق. فالشغل الشاغل، الذي تحدث عنه فيكتور فرانكل، عند عموم الناس هو كيفية الاستئناس باللذة، لكنّهم يبحثون عليها وسط المعاناة، وهذه الأخيرة عدوّهم الأوّل والأخير؛ أنهم يبحثون عن وجود بلا معاناة، وهذا أصل عذاباتهم.