بؤرٌ قابلة للانفجار

آراء 2023/06/20
...






  د. أثير ناظم الجاسور

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 تغيرت النظرة للعلاقات بين الدول من حيث الاعتماد المتبادل والتفاعل والتشارك، وفق السمات والخصائص التي سبقت هذا التاريخ، من ثم تم تحديد الخطوط العريضة لنظام عالمي جديد بسمات وخصائص جديدة، تلعب فيه القوى مجموعة من الأدوار، لكن يبقى الدور الأهم للقوة العظمى المهيمنة على القرار العالمي في مختلف الجوانب، بات الحديث عن من يمتلك القوة، وعمن يستطيع أن يعمل على نشر أفكاره ضمن ما حددته المدارس الفكرية من حيث الجوانب النظرية والتنظيرية في مراكز الأبحاث، بالمقابل أصبحت الفكرة الأكثر رواجاً هي تقسيم العالم إلى أصدقاء وأعداء، وهذا بحد ذاته جعل من النظام يعيش أجواء صلبة خطيرة جعلت اللاعبين الدوليين يُعيدون حساباتهم في علمية التعاون والتشارك وحتى التقاطع، خصوصاً أن الولايات المتحدة باتت تطلق التقسيمات ضمن مناطق تحاول أن تكون فاعلة فيها، فبدء الحديث عن نماذج الديمقراطية التي بالضرورة أن تُرسخ في مناطق مختلفة، وعن دول مارقة وعن دكتاتوريات وأصوليين،لا بد من تخليص الشعوب من طغيانهم، فكانت حجة الهجمات هي الوحيدة التي من خلالها يمكن التسلل لهذه المناطق والقضاء على الخصوم المزعجين المهددين للمصالح الأمريكية.
في هذه المرحلة من عمر النظام العالمي تغيرت الستراتيجيات والتحالفات وباتت مراكز التفكير العالمية تنظر لما بعد التهديد الكبير، الذي طال الولايات المتحدة الأمريكية، بالمقابل لعبت الولايات المتحدة على تحقيق سيطرتها وتمددها صوب المناطق الحيوية التي تحاول أن تجد فيها نقاط ارتكاز اكثر، فتوجهت للتبشير بالنماذج التي لا بد من تغييرها فكانت أفغانستان المحطة الأولى من المشروع لاعتبارات جغرافية وسياسية وعسكرية، فأفغانستان بالرغم من كونها دولة حبيسة غير ساحلية، إلا أن جغرافيتها ومن يحيطون بها من الدول ركز عليها التفكير الاستراتيجي الأمريكي، فآسيا الوسطى من المناطق المهمة في التفكير الأمريكي وجوار أفغانستان سواء ايران أو الصين أو حتى الحليفة باكستان، يشكلون لاعبين مهمين في الصراع مع الولايات المتحدة، بالرغم من أن الصين خصم سلمي التوجهات، إلا أن صعودها يشكل عامل قلق بالنسبة لها، وأيضا العراق خصم غير مرغوب ببقائه لما يمتلكه من قدرات ساعدت على تعزيز فكرة رفض التواجد الأمريكي في المنطقة، العراق مناطق تحيطه دول بالضرورة يقع ضمن الأولويات أو التوجهات الأمريكية، ناهيك عن الموارد وعملية تدفق الطاقة المتمثلة بالنفط، فضلا عن نظامه السياسي السابق الذي يُعد واحداً من الأنظمة التي صنفتها أمريكا بالشريرة والمارقة، بالتالي فنحن هنا أمام نموذجين من الدول، الأول تم حكمه من قبل الأصوليين من طالبان والقاعدة، والنموذج الثاني نظام دكتاتوري قامع لشعبه وحرياته يمتلك أسلحة الدمار الشامل ومهدد لجيرانه.
الفكرة هنا إن الولايات المتحدة وبعد سنوات تركت هذه الدول لمصيرها الفارق، إن أفغانستان عادت طالبان تحكمها، والعراق لا يزال يعاني من فوضى اقتصادية وسياسية، بالإضافة لمروره بمراحل خطيرة هددت نسيجه الاجتماعي، وهددت وحدة الدولة وكلا النموذجين نقاط منتجة للاستقرار وعدم الاستقرار، في مراحل متأخرة من التواجد الأمريكي في كلتا الدولتين بات الحديث عن فشل الاستراتيجية الأمريكية فيها، وأُطلقت العديد من المسميات والمفاهيم مثل المستنقع الأمريكي والفشل الستراتيجي، فضلاً عن اتهامها بعدم دراسة واقع الدولتين بشكل جدي، نعم ما من خطط وستراتيجيات تنجح بالمطلق خصوصاً في دول قبلية ومتنوعة مثل العراق وأفغانستان، لكن لو نظرنا للخارطة من جانب آخر وبدأنا بتنويع فكرة المحاصرة والسيطرة مرة أخرى من منطلق زرع بؤر للفوضى في هذه المناطق، سنصل إلى نتيجة أن الأمريكان قد أخطؤوا في دراسة طبيعة مجتمعات البلدين، وهناك بالتأكيد خسار مادية وبشرية، لكن النظر للربح الأبعد هو ما يجعلنا أن نفكر بأن الستراتيجية الأمريكية لا تنحصر فقط في تحقيق المصالح الضيقة، بقدر ما تحاول أيضا أن تقيد خصومها الإقليميين والدوليين، من خلال زرع بؤر تتفجر في حال تحريكها، مما يساهم في إشغال الخصوم بهذه البؤر مما يعمل على تشتيت هذه القوى، بالتالي تستطيع الولايات المتحدة من أن تلعب على أكثر من اتجاه، فمثلاً التعاون مع طالبان لدفع الخطر، قد يتم تصنيفه ضمن دعم الإرهاب، بالرغم من التقارب الأمريكي مع طالبان، والعمل بالعمق مع العراق قد يعمل على تعزيز مراكز قوى داخلية تتعارض مع المشروع الأمريكي، بالتالي يتم تقييد هذه الدول كي لا تكون الخصم والطرف الأقوى بوجه المشاريع الأمريكية، من ثم فإن احتواء الدول الخصم أو المنافسة، لا يتم من خلال الصراع الاقتصادي والسياسي وإنما الإشغال بمناطق وبؤر قريبة قابلة للانفجار.