د. كريم شغيدل
وضعت (نازك الملائكة) شروطاً للريادة تنطبق على تجربتها، إذْ اشترطت وعي الشاعر بتجربته واقتران ذلك بالدعوة إلى الشكل الجديد والتأثير بالآخرين ليخوضوا فيه، ومن ثمَّ إحداث ردود مختلفة في الأوساط الثقافية، رابطة بين هذه الشروط وما حققه ديوانها (شظايا ورماد) من انتشار إلى جانب احتوائه على دعوتها للشعر الجديد، وخلاصة فكرة نازك عن التجديد هي «أن الشاعر قد يجد نفسه أفرغ ما يريد قوله في ست تفعيلات من أصل ثماني تشكل شطرين من بحر من البحور: فلماذا يضطر الشاعر إلى إكمال التفعيلات الثماني بعبارة تلصق لصقاً وقد تؤدي إلى تشويه الصورة التي بناها الشاعر في ست تفعيلات فقط؟.
تؤرخ الملائكة قصيدتها «الكوليرا» في يوم الجمعة 27/ 10/ 1947، ويتفق بعض الدارسين على أنَّ ديوان السياب (أزهار ذابلة) قد صدر في منتصف كانون الأول من العام نفسه، بينما يؤكد السيّاب أنَّ ديوانه المعني قد طبع في مصر ووصل إلى العراق في كانون الثاني في العام 1947 وأنَّ قصيدة (هل كان حباً) قد كتبت قبل طبعه بما لا يقل عن شهرين، وبناءً على ذلك وضع بدر لقصيدته الريادية تاريخاً ينسجم مع ادعائه هو 29/11/1946، عندما أعاد نشرها في ديوانه (أزهار وأساطير) الذي صدر في العام 1960، ويشير السياب أيضاً إلى أنه نشر خمس قصائد من الشعر الحر مابين ظهور (أزهار ذابلة) و(الكوليرا) من دون ذكر لأسماء تلك القصائد، ونرى أنَّ قضية الأسبقية التي شغلت الرائدين الراحلين نازك والسياب على صفحات مجلة (الآداب) البيروتية ثمَّ شغلت عدداً من النقاد والمهتمين العرب لم تكن بالقضية العميقة التي تشكّل ركناً من أركان المشروع، لاسيما أنهما عرفا بحقيقة وجود تجارب سابقة مماثلة لما جاءا به، إذ يشار تحديداً إلى تجارب لويس عوض وعلي أحمد باكثير، فقد استخلص (س. موريه) خمسة أنماط من محاولات التجديد بين عامي 1926 - 1946، أطلق عليها الشعر الحر، وميّز من النمط الخامس تجربتين: الأولى: قصيدة باكثير (نموذج من الشعر المرسل) والثانية: ترجمة حسين غنام لقصيدة (لونجفلو) المسماة (هيواثا) وقد عدَّ هاتين التجربتين خلاصة لجميع حركات التجديد، إذ استعمل كلٌّ من باكثير وغنام التكنيكات الأساسية ذاتها التي استعملاها نازك والسياب في ما وصفه بالمرحلة الناجحة للشعر الحر، لكنه تجنب تثبيت التجربتين وتحليلهما، ويرى د.علي عباس علوان أن التجربتين بعيدتان عمّا ابتدأه السياب والملائكة.
هناك إشارات إلى ما سمي بـ (الشعر الطليق) بحسب ما نشرته جريدة (العراق) من قصيدة بعنوان (بعد موتي) باسم مستعار هو (ب. ن) ولما ادعاه محمد بسيم الذويب من خروج على الأوزان المألوفة قبل ولادة نازك والسياب، أو وهما يحبوان.. إلخ، وقد أشارت نازك الملائكة إلى أنها عرفت من كتابات الباحثين والمعلقين، بل فوجئت بأنَّ قصائد حرة معدودة ظهرت منذ العام 1932 وبدأت تسمع بأسماء عديدة مثل: (علي أحمد باكثير، ومحمد فريد أبي حديد، ومحمود حسن إسماعيل، وعرار شاعر الأردن، ولويس عوض) وغيرهم، وقد عثرت بنفسها على قصيدة حرة للشاعر بديع حقي، وتتساءل عمّا إذا كنّا نستطيع أن نحكم بأنَّ حركة الشعر بدأت في مصر عام 1932 أم أنها بدأت في العراق عام 1921 إشارة إلى قصيدة (بعد موتي) فتجيب بالسلب بناءً على شروطها الأربعة للريادة، والواقع أنَّ تلك الشروط تنطبق على الكثير من التجارب التي سبقت تجربتها، وتشير الملائكة إلى أنَّ قصيدتي (الكوليرا) و(هل كان حباً) مرّتا مروراً عابراً أول الأمر إلى أن ظهر ديوانها (شظايا ورماد) بعد مرور عامين، أي في العام 1949، وتعدُّ المحاولات التي سبقت العام 1947 إرهاصات لحركة الشعر الحر، إذ مرّت من دون أن تلفت الاهتمام، فلم يتأثر بها الشعراء وأنَّ أصحابها غادروها بعد تجربة أو تجربتين، إذ لم يشعروا بأهمية ما صنعوا، ولم يكن ذلك مصحوباً بدعوة رسمية، لذلك فإنَّ الزمن جرف تلك التجارب وانطفأت الشعلة ولم تلتهب حتى صدور ديوانها، وهي من ثمَّ تجارب لا تنطبق عليها شروط الريادة كما سنتها لتلائم تجربتها متناسية أنَّ الفرصة التي توفرت لها وللسياب ما كان لها أن تأتي من فراغ، لولا تلك الهزّات التي خلخلت البناء الطرازي للشعر العمودي.
إذا كان تراجع السياب مقروناً بتدهور حالته الصحية وتضخم عضوية الألم الجسدي- الحسي، على حساب الألم الوجودي- الروحي، فإنَّ نازك قد اختارت التراجع عن وعي وإرادة، حتى تحوّل مشروع الحداثة عندها إلى مجرد (نظرية عروضيَّة) صاغتها بصرامة تفوق صرامة العروضيين التقليديين مستمدة من أيديولوجيا الولاء للماضي (وصاية أمومية) لتقنين التفعيلات وقبول هذا الزحاف واستلطافه ورفض ذلك واستقباحه، استناداً إلى أذنها المدرّبة على موسيقى الشعر العربي، إلى درجة استنكارها أن يكتب بعض الشعراء (الناشئة) جميع قصائدهم بأوزان الشعر الحر، وإذا ما توقفنا عند وصفها للشعراء بـ (الناشئة) وربما قصدت (عبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري، وشاذل طاقة) وغيرهم، أو عنت السياب نفسه، أقول إذا ما توقفنا عند ذلك الوصف فسنتأكد من انطواء خطابها النظري على نبرة الوصاية التي تبلورت في لغتها وتفكيرها في ظل عوامل إعلامية وأخرى ذاتية - نفسية، إذ سيطرت عليها فكرة الريادة التي غذتها الصحافة الأدبية آنذاك بوصفها عامل إثارة للسجالات الأدبية والترويج الإعلامي.
وكون المعني بالأمر امرأة تصبح فكرة الريادة بياناً (منفيستو) لإثبات الوجود بالتناغم مع الحركات التحرريّة للمرأة، وكم كان مغرياً في ظل الأجواء الثقافيّة، للمرأة ذاتها، وحتى للرجل، أن تحقق ما عجز عنه الرجال، ولم تكن فكرة الريادة أقل سيطرة على لغة السياب وتفكيره، وفي ظل العوامل الإعلامية ذاتها، فقد كتب في مقدمة ديوانه (أساطير): «كانت قصيدة (هل كان حبا) من ديواني الأول (أزهار ذابلة) وقد صادف هذا النوع من الموسيقى قبولاً عند كثير من شعرائنا الشباب أذكر منهم الشاعرة المبدعة الآنسة نازك الملائكة»، فإذا ما حاولنا تحليل هذه العبارة فسنجد أنَّ اللغة النظرية للسياب تمارس (وصاية أبوية) بصورة تبدو أكثر استرخاءً وثقة بالنفس، فإذا كانت نازك قد خاطبت (بعض الناشئة) فإنَّ السياب يخاطب بصيغة الكثرة والتملك (الكثير من شعرائنا).
نعتقد أنَّ قضية الريادة دخلت للحياة الثقافية من بابين: الأولى: نرجسية الشعراء، والثانية: الصحافة الأدبية، وقد أصبحت لازمة لكل بحث يعالج قضية من قضايا الشعر الحديث، وهي في الواقع قضية عرضية لا تخرج عن نطاق أهميتها التاريخية التي لا تصلح أن تكون حكم قيمة أو معياراً، فلو كانت قضية الإبداع أو الحداثة تقاس بمجرد الأسبقيات لاحتكمنا إلى التجارب التي سبقت نازك والسياب.