حربي محسن عبدالله
يقول الروائي الفرنسي باتريك موديانو، الحائز جائزة نوبل عام 2014: {كل كتاب اعتذار من الذي سبقه، وحجة لكتابة الذي يليه}. مع أن {الكتاب لا يعطون وصفات طبيَّة. إنهم يسببون الصداع!} كما يقول تشينوا أتشيبي، الروائي النيجري، إلا أننا سنتصفح الكتاب الذي بين يدينا كتاب {ناحية الماء والكلأ} وهو جديد الروائي والصحافي السوري خليل صويلح، يحمل عنواناً فرعياً هو {مرافعات عن عمل الحكائين}، وقد صدر عن دار نينوى في دمشق.
يسعى هذا الكتاب إلى اقتفاء أثر روايات، كانت بالنسبة للكاتب، مرجعاً جمالياً في الكتابة، وشغف القراءة، مثلما هي مشغل سردي لتطوير عمل المخيّلة، والتحليق عالياً مع شخصيات وأماكن ومواقف، لطالما كانت بمثابة قوارب إنقاذ من يأس مؤكد. هكذا وجب أن أعمل على حراثة نصوص مُلهمة بتحديقة مختلفة لجهة الحذف، والإضافة. كما لو أنها نسخة أولى بحاجة إلى توطين أو قيد نفوس.
ثمة إحالات إلى بعض عناوين وردتْ في كتب سابقة للمؤلف، هي "قانون حراسة الشهوة"، وكتاب "ضد المكتبة"، و"نزهة الغراب"، وكتاب "حفرة الأعمى" فيما يخص الرواية دون غيرها، ووضعها في نسق مختلف عمّا كانت عليه قبلاً، تبعاً لمشيئة القارئ لا الروائي، فضلا عن فحص مصائر بعض الروايات والسير واليوميات تحت بند "الكتابة بلا بنج"، حيث لا فرق جوهرياً بين الأدوات المستعملة في غرفة العمليات، وغرفة الكتابة، تلك النصوص التي كتبها اصحابها باللحم الحي، وبأقصى حالات المكاشفة.
هذه العناوين المختارة تأتي كمرافعةٍ عن "عمل الحكّائين"، وتبجيلٍ لصنيعهم، أولئك الذين أهدونا عمراً إضافياً بتدوين حيوات متخيّلة، خرجتْ من رحم الروايات إلى فضاء العيش.
ينقل لنا الكاتب عبر مقالاته التي تجاوز عددها الثلاثين، أجواءً مختلفة ومواقف متعددة من روايات وشخصيات وكتّاب وكاتبات من الروائيين العرب والأجانب.
منطلقاً من العنوان الأول، "الكتابة بالعصب العاري" وهي أولى المقالات قائلاً: (في العام 1000 للميلاد، أنهى أبو قاسم الزهراوي نسخ كتابه "التصريف لمن عجز عن التأليف" في ثلاثين مجلداً، وقد وضع فيه خلاصة تجربته في الجراحة.
كان الطبيب الأندلسي قد اختبر وصفة من الأعشاب المخدّرة لاستعمالها في عملياته الجراحية كي لا يشعر المريض بالألم أثناء العلاج، وتالياً كتم الصراخ أثناء بتر ذراع او فتح بطن أو استئصال ورم، وذلك باستخدام نشوق تحت أنف المريض إلى أن يغيب عن الوعي، وسوف يطوّر طبيب أندلسي آخر هو ابن زهر عملية تخدير المريض باستخدام صابونة منقوعة بمواد مخدرة أكثر فاعلية، شرح مكوّناتها في كتابه "التيسير في المداواة والتدبير".
كان البنج إذاً، هو الترياق الذي أسهم في انخفاض الألم.
ما كان يجري في غرفة العمليات، هناك ما يوازيه في غرفة الكتابة، ولكن من موقع مضاد.
لجهة تدوين الألم، ذلك أن الكتابة من دون بنج ستنتصر على ما عداها من استنفار الحواس، وإن كانت بجرعات متباعدة، أفلتتْ بمعجزة ما من محاكم التفتيش الأدبية إذ إن تطوّر علم التخدير انتهى إلى حقنة مركّزة، سواءً كان موضعياً أم عاماً، فيما اقتحمت المحسّنات البديعية والمجازات والرنين الإيقاعي جسد الكتابة بقصد إخفاء الألم، وتزويق أحوال الكائن بما ليس فيه بطرق التفافية ومنعطفات ومطبّات تمنع ما ينبغي فضحه وتقليبه فوق جمر الموقد، وإذا ما يسمّى الكتابة باللحم الحيّ بالكاد تعلن عن ذاتها خشية الصدام مع قائمة طويلة من المحرمات من جهة، وخشية المخيال العربي من فتح الصندوق الأسود على الملأ كي لا يكون صاحبه ضحية فرديّة في ساحة الرجم).
من هذه البداية يأخذنا خليل صويلح لتقليب روايات وسرديات عن كتابات تمَّ إخضاعها لعمليات جراحيَّة أفضتْ إلى بتر أعضاء الكثير من النصوص بقوة الحذف والإضافة تحت بند التنقيح والتهذيب المنطلقة من روحيَّة مراقب يعاني من مركّب العقد النفسية والاجتماعية فيحيل نصّاً مثل ألف ليلة وليلة إلى ما يشبه الفيلم المقطّع الأوصال بسبب المشاهد المحذوفة لأسباب طغتْ على روح الرقيب وأفسدت المغزى والهدف.
كما ورد في المقالة الثانية التي جاءت تحت عنوان (عندما استعاد الحلّاق الدمشقي سرديته المفقودة)، فقد أطاح من نصّب نفسه رقيباً منقحاً، محمد سعيد القاسمي، وبجرعة بنج مركّزة، بمخطوطة "حوادث دمشق اليومية" التي دوّنها المؤرخ الشعبي شهاب الدين بن أحمد بن بدير الحلّاق، أواخر القرن الثامن عشر، من موقعه كحلّاق يتطلّع لأن ينتسب إلى طبقة العلماء، خصوصاً أن بعض الأعيان كانوا يترددون إلى محلّه، فكان ينصت إلى أحاديثهم باهتمام، ويدوّن يومياته كمرآة لأحوال المدينة ومكابدات العوام.
فحذف كل ما يخصّ استبداد الوالي تجاه الرعية، وممارسات الأعيان، والأشعار الهجائيَّة، وحتى الأمثال الشعبية، كأن يتحوّل المثل الشعبي الدمشقي "كلام الليل ملطوخ بزبدة، فإذا طلع عليه النهار ذاب" إلى "كلام الليل يمحوه النهار"، فضلا عن عشرات المذابح الأخرى، وهنا نسف علني لسرديات العوام كنوع من التعالي على الهامش.
وبهذا المسلك المتعالي فإنَّ القاسمي استثمر يوميات الحلّاق بوصفها مادة خاماً، لا وثيقة تاريخيّة، فمن وجهة نظره، ليس من شأن حلّاق، وينتسب إلى طبقة دنيا أن يتنطّع لمهنة الكتابة التي هي حكرٌ على طبقة المتعلّمين.
ثم تتوالى المقالات لتنتشر على فضاء السرد والرواية العالمية منتقلاً من الأرجنتيني ماثيو كولومبو صاحب كتاب "الدورة إلى دينو بوزاتي صاحب قصة "المسجّلة" القصة التي كتبها بـ 242 كلمة فقط.
إلى غونتر غراس ومذكراته التي عنونها بكل بساطة "تقشير البصلة"، إلى ما قاله الروائي الروسي فالتين راسبوتين عن دوستوفيسكي "بفضل دوستوفيسكي، تمكّن البشر من أن يعرفوا أشياء كثيرة عن ذواتهم، وما هو الشي الذي لم يكونوا مستعدين بعد لإدراكه".
لا نوفي حق هذا الكتاب بهذه العجالة لما فيه من تكثيف وكمّ هائل من المعرفة المتراكمة لكاتب صحافي وروائي، ميزته التكثيف والاختصار، لا التسطيح
والابتسار.