محنة الشعر وشحوب الحياة

ثقافة 2023/06/21
...

   رضا المحمداوي


لقد تأخّرَ الشاعر عبد الجبار الصغير في إصدار كتابه الشعري الأول الذي يُعّدُ- في أعراف وتقاليد الوسط الثقافي لدينا- بمثابة الإعلان الرسمي عن ولادة شاعر جديد فشاءَ أن يؤجل ذلك منذ سنين بعيدة، فقد بدأ (...الصغير) وهو من مواليد 1956 بنشر نتاجاته الشعرية منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي لكن تخصصه الأكاديمي في فن المسرح ومن ثم عمله مخرجاً تلفزيونياً في (تلفزيون العراق) قد أخذاه بعيداً عن الشعر والتواصل مع عوالمه، ومن الجدير بالإشارة في هذا الصدد أنَّ مجلة (الطليعة الأدبية) كانت في العام 1978 قد أصدرتْ (كتاب الشعر)عن خمسين شاعراً عراقياً اختار الناقد محسن اطيمش عشرين شاعراً متميزاً منهم للكتابة عنهم والتوقف عند تجربتهم وكان (الصغير) واحداً من أولئك العشرين.

ولظروف حياتية عامة وأسباب شخصية وربما من ضمنها الكسل والخمول الشعري لمْ يقمْ شاعرنا بجمع نتاجاته الشعرية القديمة في كتاب شعري، وكذلك لمْ يقدّمْ نتاجه الشعري الجديد، وبذلك لمْ يفصح (..الصغير) عن ملامح تجربته الشعريّة على نحو ناضج وبما يخدم تلك التجربة ويلقي الأضواء الكاشفة عنها. ولا يمكن فصل تجربة الشاعر في هجرته واغترابه واستقراره في الدنمارك منذ أكثر من عشرين عاماً، حيث ما زال يعيش هناك، عن مجمل تلك الظروف والأسباب.

لكن هذا العام 2023 والشاعر (الصغير) يقترب من أعتاب السبعين من عمره شهد صدور ثلاث مجموعات شعريَّة له في دفعة واحدة هي (أصفر وجه الليالي) و(شجيرة الحجر) و(الطريق إلى الذاكرة) وقد كان لكل مجموعة من المجموعات الثلاث عالمها وأسلوبها الشعري وخصائصها اللغوية والتعبيرية، وكذلك تختلف من حيث الأساليب الفنية المُستخدَمة فمن النص القصير جداً إلى القصيدة المقطعيّة ومنها إلى النص المُرَقّم والمُتكوّن من مقاطع رقميّة متتالية، فقد خصَّصَ الشاعر المجموعة الأخيرة للقصائد القصيرة جداً، في حين عمد في المجموعة الثانية وبتوظيفه لعناصر السرد والحكي أنْ يُقدّم في نصوصه ملامح الأقصوصة أو الحكاية الشعرية وتوظيفها كقناع أو وجه مستعار للشاعر وليس هنالك أدل على هذا الأسلوب من عناوين قصائده ومنها (هموم سوادي الدائرية) و (تداعيات زغير بن حريجة) و (الرجل الذي تأوَّهَ كثيراً في غنائه) وغيرها. 

وأتوقف اليوم عند الكتاب الشعري الأول (أصفر وجه الليالي) الذي ضمَّ بين دفتيه 14 قصيدة تقع في 48 صفحة من القطع المتوسط تفاوتتْ من حيث الحجم والنوع والأفكار والموضوعات، ورغم أنَّ المجموعة الشعريّة تنتمي لقصيدة النثر من حيث التجنيس الأدبي والفني لها لكن بعض القصائد جاءت مكتوبة بلغة شفيفة وانتمتْ إلى قصائد (التفعيلة) حيث تتواجد القافية القصيرة فيها بشكل كامل أو في بعض مقاطعها، وإذا غابت تلك القافية تحضر الموسيقى الداخلية بقوة وحضور نوعي فتتراقص على أنغامها الكلمات التي تنداح هادئة وناعمة رغم ما يكتنفها من وجع وألم دفين.

وتطغى الغنائيّة بما تفصح عنه من وجدانيّة واضحة وما يتبدى من انثيال للعواطف الإنسانيّة وهي تعبّرُ عن الذات المحاصرة والمغتربة والباحثة عن منفذ أو شرفة أو نافذة تطلُّ منها على الحياة.

وداخل البناء الشعري يوظف الشاعر: عبد الجبار الصغير تقنيات السرد والأسلوب القصصي وهو ينسج حكاياته الشعرية الموجعة حيث يبدو هذا الأسلوب جليّاً في العديد من قصائد المجموعة ويلامس الشاعر كموضوعة واضحة هموم النساء وأوجاعهن في قصائد (وجه أمي) و(جذوة) و(أم جواد) فنجد المرأة خاوية، ومنسية، ومكسورة الخاطر ومثقلة بالحزن وتحتشد التجاعيد في وجهها الشاحب وتستوطن الأوجاع جسدها وصوتها المتعب ولا تجد غير الصمت والآهات والتعب المتراكم على مَرّ السنين والمُعَبَّر عنه بالدمع الثقيل وصوتها الواهن تحت وطأة العذاب المكتوم، ورُبَّما جاءتْ هذه القصائد تعبيراً عن صوت المرأة أو بالأحرى صرختها... صرخة الأمهات ضد الاستلاب والانسحاق والانكسار والموت.

وتحضر موضوعة الحرب وتداعياتها وصورها في العديد من النصوص فتطغى على أجوائها وتعبيراتها حيث تتبدد الأحلام وتنحني الأيام على نفسها وتنطفئ جذوة العمر والسنين ولا تترك تلك الحرب سوى بقايا صور باهتة مُعَلّقة على جدار البيت العتيق وتقف قصيدة (إجراء اللازم حسب الضوابط) لتعيد صور الحرب المتكررة وكأنها قدر وجودي لا مفرَّ منه فيُقتَلُ الأب في الحرب الأولى ويُقتَلُ ابنه الأكبر في الحرب الأخرى في حين يُقتَلُ الابن الثاني في تفجيرات ساحة الطيران ويضيع مصير الإنسان بين وزارة العدل ووزارة حقوق الإنسان ويصبح مجرد إضبارة ضائعة تتناثر أوراقها على جسر الشهداء وتنتظر مَنْ يقوم بما لا يلزم أحد بالقيام به لا سيِّما في هذا الفلتان القائم والذي لا تحدّهُ ولا تضبط إيقاعه الضوابط فقد اختلت الموازين، وأصبحت القوانين مجرد هراء.

وفي تنويع آخر أو صورة أخرى من صور جدب الحياة ويباسها وتساقط أوراقها في الخريف الحزين نجد قصائد جسَّدتْ حالات الإنسان الوحيد وهو يواجهُ مصيرَهُ بقدر مأساوي لا مناص منه هو الموت، ومنها قصيدة (شيخوخة) عن العزلة والوحدة واضطراب الذاكرة الذي يقودها إلى توهم الحياة والمضي بعيداً في الخيال ليحلّق المرء بأجنحة الحب والحنين وكذلك قصيدة (النهار الأخير) حيث نجد الإنسان الوحيد الذي يحاصرُهُ الزمن وليس له منه سوى لحظة عابرة يفتّشُ بها عن أحبتهِ وأهلهِ وأصدقائِهِ الذين رحلوا وغابوا فتنطفئ آخر جذوة من روحه ويذوي ويموت وحيداً.

وتلقي تجربة الهجرة بظلالها على الشاعر المغترب وهو يكتب نصوص مجموعته وأجواءها وما حفلتْ به من أفكار ومشاعر ضاغطة ومهيمنة حتى لتبدو كأنّها حكاية من حكايات الاغتراب والهجرة التي تشبه المنفى الاختياري فتُبعَثُ الصور المنسيَّة المُعلّقة على جدار الذاكرة وتصبح مثل ظل آمن يلوذ بها وقد أمسى عشبة في البراري قَسَتْ عليها الفصول. وقد بدا لنا الشاعر وكأنَّهُ يلوّحُ للعابرين بيد غائبة رغم ما تحيط به من حواجز ومدن من رماد ودخان، أو كأنّه طائر غادر السرب وتوارى خلف السحاب وأخذ يشعر بالدوار وقد حفرتْ على جدار قلبه علامات اللوعة والحنين، ولذا تراهُ مُرتبكاً وحائراً، وهائماً، وكئيباً مثل نهر حزين. لقد غادرَهُ الفرح وتركتْهُ المسرات بعد أنْ أنحنت الأيام والسنين عليه وأصبح غريباً يمتهن الانتظار تحت سماء موحشة وأفق مثل واد سحيق وقد طالت المسافات أمامَهُ ولفّها ليل طويل وأصبح الرجوع بعيدا.. بعيداً.. هو الآن المنفي الذي تحاصرهُ الأيام وتطاردهُ الذكريات لا يطيق النأي عن بلادِهِ وقد يكون قد نسي نفسه هناك في البلاد البعيدة، ولذا هو يقف في مهجرِه وغربتِه مثل مسافر في محطة صدئة يحمل حقيبتَهُ المتهرئة، في حين تعيد الذكريات عليه انكساراته كلما أراد نسيانها ليتساءل: ما الذي جاء به إلى هنا في حين أنَّ سرَّه القلق العميق مدفون هناك في الوطن البعيد حيث مسقط رأسه فيحاول - والعمر يمضي سريعاً -أنْ يمسك باللحظة العابرة وهو يبحث عن ملامح وطنه فيداهمهُ الدمع كلما لاح له وجه العراق.