إشكاليَّة الجسد عند الصوفي

ثقافة 2023/06/21
...

كه يلان محمد



يتشابك التصوّف مع ظاهرة الدين والبعد الروحي في التجربة الإنسانيَّة والباحثُ في تشكيلة الأديان بشقيها التوحيدي أو غير التوحيدي يكتشف بأنَّ مبادئ التصوف جزءٌ من تركيبتها العقائديَّة. ولاشكَّ أنَّ نشأة هذه الطريقة الجوانيَّة لفهم مقاصد الدين مُقابل التفسير الظاهري لمُعطيات الرسالة قد أثارت جدلاً في الفضاء الإسلامي وتباينت المواقفُ بشأن مدى توافق مفهوم التصوف مع قواعد فقهيَّة مستمدة إطارها المرجعي من النصوص المؤسسة. وكان يهمّ رواد التصوف التأكيد على تناغمِ مسلكهم مع الشريعة يقولُ أبو طالب المكي: “لا يكونُ العبدُ مريداً حتى يجدَ في القرآن كلَّ ما يريد”، وبدوره يرى جنيدُ وهو معروف بتاج العارفين أنَّ أبواب التحقق الروحي موصد دون العباد باستثناء من يتبعُ السنة. ويذهب الآلوسي إلى أنَّ فهم أسرار القرآن لا يكونُ إلا بعد التقيد بأحكام التفسير الظاهر. غير أنَّ هناك أصواتاً صوفيَّة تعارضُ التبعيَّة للفقهاء، يصرحُ البسطامي مرسلاً كلامه لأهل الظاهر “تأخذون علمكم عن علماء فانين، يلحق بعضهم بعضاً بينما نحن نأخذ العلم من الحي الذي لا يموت”، وأبدى نفر من العلماء تفهماً لخصوصيَّة تجارب المتصوفة، يقول ابن قيم الجوزيَّة: إنَّ ما يعيشهُ المتصوفُ من حالة السكر والفناء تفقدهُ القدرة على التمييز لذلك قد ينطقُ بما يخالفُ صحة الإيمان. وهنا يمكنُ الإشارة إلى ما كان يرددهُ البسطامي “سبحاني سبحاني ما أعظم شأني” أو ما ينسب إلى الحلاج “أنا الحق” وفسر قولُ الشبلي “ما في الجُبَّة إلا الله” بأنَّ المعنى المراد هو ما في الوجود إلا الله. بالطبع أنَّ هذه المقولات قد تطيحُ برأس صاحبها تماماً كما هدر دم الحلاج والسهروردي، وما يميزُ التجربة الصوفيَّة ليس الاختلافَ في التأويل للنصوص فحسب أو الفصوص المعبرة عن الفيض الروحي. بل موقع الجسد في مسيرة المتصوف هو ما يرسخُ هويته. الأمر الذي لفت اهتمام الباحثة التونسيَّة أسماء خوالديَّة، إذ رصدت في كتابها الموسوم “الجسد في التجربة الصوفيَّة قاتلاً ومقتولاً” شكل الجسد المنشود لدى المتصوفين. وما تتطلبه تلك الغاية من المكابدة والرياضات المضنية.

حلبة 

الطريق إلى التماهي مع الحقيقة يبدأُ بتطويع الجسد والتخفف من محركاته الغريزيَّة لذلك يمضي المتصوف في ممارسة كل ما يضفي الهدوء إلى الجسد من الصوم والخلوة والسهر. إذن هو الجسد إذا لم يشغلهُ العارفُ بالرياضات يشغلهُ بمطالبه التي تبعدهُ عن الصفاء الروحي واللطافة في إدراك إرساليات الحق. من هنا نفهم مغزى ما تذهب إليه خوالديَّة بأنَّ تاريخ التصوف يتمثلُ في محاربة الجسد ومساره يتجلى في مخالفة الأهواء. وبما أنَّ الجسد أداة للإدراك وموضوع له في آن واحد لذا يجبُ على الصوفي تنقية كيانه الجسدي من المكروه ويحميه من المؤثرات الخارجيَّة. تهدف الأخلاق الصوفيَّة حسب رأي الباحثة إلى صناعة جسد بمواصفات خاصة ولا يكونُ إلا نسخةً معبرة عن إرادة تائقة لتذوق ما يسمى في المعجم الصوفي بحق اليقين يذكر أنَّ مفردةَ اليقين لا تعادل الجمود الباطني في الأدبيات الصوفية. بل الصادق يتقلبُ في اليوم أربعين مرة والمرائي على حالة واحدة أربعين سنة هذا ما يصرحُ به أحد أقطاب التصوف. تتناولُ أسماء خوالديَّة في إطار المتابعة لما يعنيه الجسد بالنسبة للمتصوف دلالات مفردة النفس على المستوى المعجمي قبل أن تبديَ رأيها بأنَّ النفس والجسد كليهما سجن فالخروجُ منهما راحة أبديَّة. ويقعُ المُتلقي ضمن هذا المبحث على آراء عدد من المتصوفين فمُخالفة النفس هي جوهر العبادة برأي القشيري ويقولُ الشعراني بأنَّ الجسد لا يخلو من الحسد وهذا يعني أنَّ ما يشغل الصوفي هو ترويض النفس والجسد إلى أن يكون كلا المكونين شاهداً على مراتب التحقق الروحي. مقابل الجسد الصوفي هناك الجسد الفقهي الذي يتمثلُ للمخيال الاجتماعي وما يحظى بالأولويَّة في برنامجه هو الحفاظ على مفهوم التَماثُل، والمُشابهة وينبذُ النزعة الفرديَّة والمُغايرة. فيما يضطلعُ المخيال الصوفي بتثوير النزعة الفرديَّة معلناً القطيعة الكاملة مع الأنموذج الجمعي وما تستخلص إليه الباحثةُ وهي بصدد التأمل في المنهجين الفقهي والصوفي أنَّ الأول يكرسُ الجسدَ كائناً منضبطاً للمقدس منفتحاً على الاستهلاك والتنعم. بينما الثاني ينذرُ الجسد للمقدس  لا في محظوراته فحسب بل في مباحاته وبالتالي ما يكون مستهلَكَاً هو الجسد ذاته. والكلامُ عن الجسد يقودُ إلى رصد وظيفته الحسيَّة. تستهلُ مؤلفة “الرمز الصوفي” مُعالجتها لمكانة الحس في التجربة الروحيَّة بلمحة أبي نصر السراج الطوسي الكاشفة لحقيقة حضور الحس في ذروة الوجد ولو تحقق الفقدُ حقاً لما تمكنَ الصوفي من وصف ذلك لأنَّ فاقد الحس عاجز عن وصف ما يفقده. إذن يكسبُ سلطان الحس جذوةً لمجمل التجارب الصوفيَّة. وتقدمُ خوالديَّة مقارنةً بين الإدراكات الحسيَّة كما يختبرها الشاعر فهو لا يفاجأ بها لأنَّه حصّل لها صوراً ذهنيَّة مطابقةَ فيما تذهب الإدراكات الحسيَّة غير المألوفة التي تداهم الصوفي بلبَّه وتركيزه.

مصدر اللذة في منهج الصوفي ليس ما هو المتعارف عليه لدى العامة بل تنتهي حصيلة تجاربه بتذوق ما لا يُتاحُ لغيره. يقولُ إبراهيم بن أدهم: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السرور والنعم إذن لجالدونا على ما نحن فيه بأسيافهم. ويستغربُ البسطامي من انهمام الناس بالملذات المألوفة ويعيبهم على الانسياق وراء ما يلذ من الطعام والنكاح والشراب في عالم الغيب والشهادة. فهو لا يرى اللذة سوى في الذكر أو كشف الحجاب بينه وبين المعبود. عليه فإنَّ الصوفي لا يشتكي من آلام دنيويَّة أو جسديَّة يعلنُ الحلاجُ مخاطباً معشوقه “لو قطعتني بالبلاء إرباً إرباً ما ازددتُ إلا حباً”، ويكتب ذو النون المصري لأحد أتباعه قائلاً: “فليكن معك يا أخي حياءٌ يمنعك من الشكوى”، وهذا يذكرُ بمقولة نيتشه: “لا شيء على وجه الأرض أسخف من الشكوى فهي تهيننا”، تتابعُ خوالديَّة قراءتها الفاحصة لمفهوم الجسد بوصفه حلبةً للصراع ومنها تنطلقُ رحلة المتصوف نحو الانسلاخ من ناسوتيته مستجلية في مساحة بحثها تفاصيل سلوكيات الصوفي في رمزيَّة الملبس وعلاقته مع المرشد الروحي ومنزلة الأخير في تطيب القلوب من الأدرانِ.

الأنسنة

لا يتجلى البُعد الإنسانوي في الخطاب الصوفي من خلال الانفتاح على المختلف ملةً أو ديناً فحسب بل ما يقدمه من فضاءٍ يتكافأ فيه حضور المرأة والرجل يؤكدُ قيمة الجوهر الإنساني في الفكر الصوفي. ومن نافلة القول أنَّ الرمز في الأدبيات الصوفيَّة مشحونٌ بنفحات أنثويَّة “ليلى ، سلمى”، هذا ناهيك عن وجود أسماء نسويَّة مؤثرة في المُعترك الروحي. رابعة العدويَّة وفاطمة البلخيَّة وفاطمة بنت المثنى. هؤلاء من أكثر الشخصيات تأثيراً في المنحى الروحي في الدين الإسلامي. إذن بخلاف الخطاب الفقهي الذي يصمُ المرأةَ بالغواية والنقص في الدين فإنَّ الأنثى في منهاج المتصوف ملهمة للحقيقة ومظهر للكمال، يقولُ ابنُ عربي: “إنهنَّ محل التكوين لصورة الكمال”، وما يجدرُ بالإشارة في هذا المقام هو رأي الباحثة خوالديَّة “ما اختص خطاب الأنثى في التصوف الإسلامي بخصيصة موضوعيَّة أو أسلوبيَّة تميزه من الخطاب الذكوري”، وتفسيرها لذلك هو أنَّ المحبة واحدة وخطاب القلوب واحد، يذكر أنَّ العزوف عن الزواج ليس مبدأً ثابتاً لدى المتصوفين بل إنَّ كثيراً منهم قد رأوا في التأهل عملاً عبادياً، يقول عبد الله التستري: لا يصح التزهدُ عن النساء. ما يلفتُ الانتباه هو التباين في الحالات والتجارب بين المتصوفين صحيح أنَّ الغاية واحدة ويشتركون في المُجاهدة والتواضع لكن مستوى التعمق في الحالات مختلف فإنَّ تجربة الحلاج لا تشبه طريقة أستاذه جنيد كذلك الأمر بالنسبة للبسطامي يتميزُ بالفرادة في أفكاره الناضحة بالفتوة الروحيَّة وهو يسألُ الله بأن يكبره في الجحيم لدرجة لا يتسع لغيره. وعن مراسه في التحامل على كيانه الجسدي والتجديد يقولُ: “خرجتُ من بايزديتي كما تخرج الحيَّة من جلدها ونظرت فإذا العاشق والمعشوق واحد” والكلام عن التصوف يضعنا بوجه المعارضين لهذا التيار الروحي فبنظرهم أنَّ التصوف يستنفدُ الحيويَّة والإرادة، ولا يقدمُ سوى كائنٍ مُتهالك غير أنَّ هذا الحكم ليس إلا نتيجة للفهم السطحي، والخلط بين التصوف الحقيقي والتستر بغطاء التصوف، بالتأكيد فإنَّ الهدف من الأخير هو تقييد العقل والتبعيَّة والاستسلام لفوضى المظاهر يقول الحسن البصري: إنَّ “الفتى إذا نسك لم نعرفه بمنطقه إنما نعرفه بعمله وذلك العلم النافع”، فحوى هذا القول تسمعه في عبارة الإمام جعفر الصادق: “ادعوا إلى الدين بغير ألسنتكم” إذن فالتصوف هو موقف وسلوك قبل أن يكون استعراضاً ومظهراً.