البهجة في القراءة

ثقافة 2023/06/21
...

عبد الخالق كيطان 



لا أتذكر جيداً أول كتاب قرأته، ولكنني أتذكر جيداً نوعين من الكتب كانا متوفرين في منزل الولادة. النوع الأول هي كتب في القانون، وكانت عائدةً لأخي الأكبر عبد الرحمن. فهو كان، آنذاك، يستعد للدخول في المعهد القضائي في بغداد. ومن ضمن تلك الكتب، نصحني هو، بقراءة القصص البوليسيَّة، مثل قصص ارسين لوبين. فلم أتأخر. أما النوع الثاني من الكتب في المنزل فكانت عائدةً لأخي غازي. وكان تخرج في أكاديميَّة الفنون الجميلة ببغداد وكتبه بمجملها عبارة عن نصوص مسرحيَّة، أو كتب في علم الجمال. بالطبع لم أقرب منها غير المسرحيات. وربما من المفيد الاستدراك هنا أنني التحقت بعدها بالكليَّة نفسها وبالقسم نفسه، الفنون المسرحيَّة، إلا أنني تخصّصت بالنقد.

لقد كانت قراءات مبهجة فعلاً. فالكتب متوفرة، تضاف لها حفنة من الصحف اليوميَّة، ومجلات متنوعة أسبوعيَّة وشهريَّة، تتكدَّس في البيت لمن يريد القراءة المجانيَّة. حتى أنني، إلى اليوم، أستغرب كثيراً عندما أقرأ أو أسمع عن منزل بلا كتب أو صحف. 

لقد أهّلتني هذه المرحلة، المبكرة جداً من حياتي، إلى عالم المكتبة المركزيَّة في العمارة. هذه المكتبة الضخمة، بالفعل، والتي كانت تقع وسط المدينة، ولم ينقطع عنها، على ما أزعم، أحد من أبناء المدينة الذين أنهوا دراستهم الجامعيَّة حتى العام ٢٠٠٣. 

تذكر المصادر أنَّ المكتبة في العام 1938 على يد متصرف العمارة خليل إسماعيل، بالتعاون مع مدير معارف لواء العمارة آنذاك، وبحضور وجهاء المدينة، وضمّت وقت التأسيس أكثر من 2000 كتاب. وكانت تتميز بقاعاتها الواسعة التي تخترقها رفوف عالية من الكتب والمجلدات غير بعيد عن أماكن القراءة التي كانت تتسم بهدوء صارخ. 

عندما تدخل إلى المكتبة فإنَّ الهدوء هو أول ما تلاحظ قبل أن تتقدم من طاولة الاستقبال. هنا توجد خريطة، أو فهرست، للمكتبة. الموظف المسؤول يدلك بحنو إلى غايتك. وعندما تتسلم الكتاب المعني فإنَّ بياناتك الشخصيَّة تدوَّن في بطاقة خاصة، ثم تدخل في النظام. 

نظام إعارة الكتب يشمل إعارة داخليَّة، أي القراءة داخل المكتبة، وإعارة خارجيَّة تُتيح لك مطالعته في المنزل. وبين هذا وذاك ثمة فرصة قراءة واجباتك الدراسيَّة هنا في المكتبة بعيداً عن ضجيج المحلات الشعبيَّة التي كنا نسكن فيها. 

أتذكر هنا أنَّ بعض الطلبة لم يكونوا من روّاد هذه المكتبة أيام الامتحانات العامة، فكانوا يقصدون شارع كورنيش نهر دجلة عند الظهيرة بشكل خاص، ويقصدون الشوارع الرئيسة عند المساء بسبب الإضاءة. أما عند النهر، فكنت شاهداً مرّة، عندما حرّضني صديق على القراءة هناك، على حادث مروّع ذهبت ضحيته فتاة صغيرة. كانت المسكينة رفقة والدتها في رحلة عبور جسر خشبي قديم ومتهالك شُيّد بين ضفتي النهر، وكان جانباه مكشوفين بلا أي مسند أو حاجز فزلقت الفتاة وسقطت في النهر. عبثاً جرت محاولات إنقاذها من قبل المستطرقين. لم تكن القراءة هنا تروق لي، فقررت الانقطاع عن زيارة هذا المكان ومداومة القراءة في البيت أو المكتبة المركزية. 

غواية القراءة هي التي دفعتني إلى غواية الكتابة. فلقد بدوت بين أقراني بوصفي قارئاً الأمر الذي دفعهم لتقديمي للمعلمين والمدرسين، والذين بدورهم أرادوا إشراكي في المناسبات والنشاطات الثقافيَّة والفنيَّة التي كانت المدارس تقيمها بشكل مستمر. على أنَّ أبلغَ تقديمٍ حصلت عليه كان مفتاح مكتبة متوسطة المرتضى للبنين، وكنت حينها طالباً في المرحلة الثانية. 

طلب منّي مدرس اللغة العربيَّة الأستاذ عبد الفتاح أمام الطلبة في يوم دراسي لا ينسى أن أتسلم مهام مسؤول مكتبة المتوسطة. قال لي: ستكون مهمتك: تنظيف المكتبة، إحصاء الكتب وتدوين عناوينها في سجلات خاصة، وافتتاح سجل خاص بالاستعارة، وأخيراً فتح المكتبة أمام الدروس الخاصة. 

أمضيت عامين في هذا “المنصب” الرفيع، حتى حان أوان انتقالي إلى الإعداديَّة المركزيَّة للبنين في العمارة. مع ذلك، سبقني صيتي في المكتبة ووجدت الكثير من الزملاء يعرفونني جيداً فصرت أحرص على كتابة الكلمات الخطابيَّة، والقصائد البسيطة، في مناسبات الإعداديَّة.

كانت المدارس تمارس مهام تربويَّة فعلاً. وكانت المدرسة هي الواجهة الأولى لنشاطنا، ومن خلالها يخطّ الطالب طريقه في الحياة. أتذكر جيداً عندما اشتركت في تمثيل مسرحيَّة، لحساب الفرقة القوميَّة للتمثيل في العمارة، بصفة أحد أفراد مجموعة الأطفال، ما قام به أحد أساتذتي من تكريمي أثناء رفعة العلم.

نودي على اسمي وكنت أقف بين الجموع. قالوا إنَّ أستاذ مادة العلوم حضر المسرحيَّة وقرَّر تكريمي بالنيابة عن إدارة المدرسة بسبب مشاركتي في المسرحيَّة. كانت هديتي عبارة عن علبة شطرنج خشبيَّة أنيقة فرحت بها أيّما فرح، وكانت كفيلة بنقلي إلى عالم نجوم المدرسة!

كانت تلك اليوميات تواصل صنعي وتشكيلي وصولاً إلى دراستي الجامعيَّة. خضعت، عندما قدمت أوراقي للقبول في أكاديميَّة الفنون الجميلة ببغداد، لاختبار إلزامي وهو عبارة عن مقابلة مع مجموعة من أساتذة القسم. كانت المقابلة تريد تقييم الطالب المتقدم لجهة اهتماماته وقدراته التمثيليَّة. درّبني الأستاذ مكي حداد، وهو زميل أخي غازي في الدراسة، على مشهد “الخنجر” من مسرحيَّة “ماكبث” ولم أعدّ غير هذا المشهد للمقابلة. المفاجأة كانت أنَّ أعضاء اللجنة وهم د. فاضل خليل، د. عقيل مهدي، د. محمد الجبوري، د. مالك المطلبي والدكتور شفيق المهدي، بدؤوا بتوجيه أسئلة تريد إرباكي واكتشاف مستواي الثقافي. كانت أسئلة مربكة وسريعة عن المسرح والشعر والرواية وكنت أتنقل في الإجابة بين الوجوه. قال لي، أخيراً، الدكتور المهدي، وكنت بصدد إجابة زميله الدكتور فاضل خليل:

لماذا أهملت سؤالي؟

في الحقيقة فأنا لم أهمل سؤاله، ولكنني كنت بصدد إجابة سؤال سابق. عرفت، لاحقاً، أنَّ هذا كان مجرد فخ لقياس دقة تركيزي في المقابلة، والتي اجتزتها بعلامة كاملة.