تعالوا نفهم السيادة

آراء 2023/06/21
...

 أ.د عامر حسن فياض

مفهوم السيادة كما هو حال غيره من المفاهيم الفكرية السياسية كالديمقراطية والعدالة والمساواة والمصلحة الوطنية والاستقلال، هو مفهوم لسؤال ثابت وأجوبة متغيرة، والمتغير لا يلغي الثابت كما ان الثابت لا يهمل أو يكون بديلا لاغياً عن المتغير، لأن كل المفاهيم تتمتع بالخاصية التاريخية (الزمكانية).

لقد التصق ظهور مفهوم السيادة باسم القابلة المأذونة له (المحامي والمفكر الفرنسي جان بودان) في كتابه (كتب الجمهورية الست)، الذي نشره عام 1576 ليبرر من خلاله الحكم المطلق غير المقيد للعاهل الملكي الفرنسي (شارل التاسع)، ليفرض سيطرته المطلقة على إدارة الشأن السياسي العام في فرنسا الكاثوليكية، على اثر مذبحة ضحيتها ثلاثين ألف بروتستانتي فرنسي.

غير أن مفهوم السيادة تعرض لمجموعة متغيرات، وصولا إلى زمن الرأسمالية المتوحشة التي روجت ثقافة الخجل من السيادة، لأن الاستقلال والتحرر الوطني أصبحا جوهرة السيادة حتى جاءت العولمة الرأسمالية. 

وإذا تعاملنا اليوم مع السيادة وفق منهجية زمكانية يقتضي الحال أن نفرق ما بين السيادة البودانية (الواحدة والمطلقة وغير القابلة للتجزئة والتنازل)، وبين السيادة المعولمة زمن الرأسمالية المتوحشة، التي تبرر الهيمنة وعدم الخجل من التبعية للآخر الاجنبي المهيمن.

 بمعنى آخر أن السيادة البودانية جعلت الاستقلالية مثوبة بشرف وكرامة وطنية اخلاقياً، وجوهرها حكم تسلطي مطلق سياسياً.

اما السيادة في زمن الرأسمالية المعولمة، فإنها جعلت من الاستقلالية مثوبة بالديمقراطية وبمشروع ثقافة الخجل من السيادة أخلاقيا، وجوهرها قبول التبعية وعدم المستحى من هيمنة الاجنبي سياسيا. 

عليه، فإن التفكير والعمل وفق الفهم البوداني للسيادة سيذهب بنا إلى القبول بالاستبداد والحكم التسلطي الشمولي، وبالمقابل فإن التفكير والعمل وفق الفهم المعولم للسيادة، سيذهب بنا إلى التبعية للمهيمن الرأسمالي المتوحش.

وعلى أساس ما تقدم فإن الذهاب في الطريق البوداني سيكون خاطئاً، وكذلك الذهاب في الطريق المعولم لأنهما طريقان وعران، فمن سيكون مع السيادة البودانية سيتهم بأنه مع الاستبداد والحكم الشمولي المطلق، ومن يناهضها سيتهم أنه مع التبعية والقبول بالهيمنة للآخر الاجنبي الرأسمالي المتوحش. 

عليه، فإن التمسك بالسيادة البودانية اليوم خطأ (شرعنة الاستبداد) والتمسك بالسيادة المعوملة اليوم خطأ (شرعنة التبعية)، فما العمل؟.

 الامر يحتاج إلى معادلة صحيحة ينبغي أن تفهم وتطبق من خلالها السيادة انطلاقاً من حقيقة تفيد بأن السيادة حق للشعوب وواجب على الحكام.

فلا سيادة بلا استقلال ولا استقلال بدون ديمقراطية وبدون هذه الحقيقة، فإن الخارج سيكون غير مسؤول عن استقلال البلد، وداخله فارغ من مستلزمات السيادة الداخلية وبدون هذه الحقيقة ايضاً كيف ستحترم قرارات الدولة من خوارجها، إذا كانت قراراتها لاتسري على دواخلها.

بمعنى أن مستلزمات السيادة داخلياً تتطلب وجود دولة لا كيان ما قبل الدولة.. كما تتطلب وجود وحدة قرار سياسي داخلي وخارجي معاً لهذه الدولة. 

ومن هنا يأتي حرصنا على ضرورة التزامن ما بين الاستقلال والديمقراطية، لكي نتلمس سيادة حقيقية ننشدها.. فلا سيادة مع الفساد.. ولا سيادة مع المحاصصة الجهوية الضيقة قوميا ودينيا ومذهبيا وحزبيا ومناطقيا.. ولا سيادة دون حصر السلاح بيد الدولة.. ولا سيادة دون تخوين وتجريم ونبذ المستقوي بلا خجل بالاجنبي..  ولا سيادة دون احترام الدستور والالتزام بأحكامه حتى من قبل واضعيه.. ولا سيادة دون العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة.. ولا سيادة دون اقتصاد انتاجي.. ولا سيادة دون استقلال القضاء.. ولا سيادة لدولة دون رجال دولة.. ولا سيادة لدولة تنأى بنفسها عندما تتعرض مصالحها الوطنية العليا للضرر سواء من دواخلها ام من خوارجها. 

اخيرا، ولان المصلحة الوطنية هي جوهر السيادة ولأننا لا نريد وجع الرأس من السيادة البودانية، ولا بالسيادة بالفهم الرأسمالي المتوحش، علينا ان نجعل من السيادة حصنا للمصلحة الوطنية ومشروع تحرر وطني من كل قيود الداخل والخارج على المواطن والوطن.

اذا أردنا أن نوجه رسالة انتباهات إلى متخذي القرار القابضين على السلطة، بصدد مسألة السيادة نضع مسطرة معرفية لها صلة بعقلية وتفكير وسلوك، لمن يريد أن يكون رجل دولة يجيد التعامل مع اطروحة السيادة فكراً وفعلاً وتلك الانتباهات تتمثل بما يأتي: 

ضرورة فهم العلاقة بين الاستقلال السيادي والديمقراطية المدنية للدولة.

ضرورة فهم الترابط بين سيادة الداخل والخارج اي (انتزاع السيادة داخلياً) و(تكامل السيادة خارجياً).

ضرورة وحدة الخطاب السيادي وإخراجه من دائرة الاستحقاقات الفرعية القابلة للخلاف والاختلاف، وادخاله في دائرة الاستحقاقات الوطنية غير القابلة للخلاف والاختلاف.

ضرورة اجادة استخدام الاجندة القائمة على التفضيل والأفضليات في تحديد الأولوليات في التعامل مع المحيط الاقليمي والدولي.

التمييز ما بين التدويل والنأي بالنفس في التعامل مع دول المحيط الاقليمي والدولي، انطلاقاً من مبدأ العراق أولاً.

اعتماد النهج الوظيفي لا العقيدي في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية.

الانتباه إلى أن الاعمال السيادية لا تحتاج لأزلام سياسة، وهم كثر، بل تحتاج لرجال دولة وهم قلة.

لأن بالضرورة كل رجل دولة هو سياسي، ولكن ليس كل سياسي هو رجل دولة. ومن الضروري عدم اكتفاء رجل الدولة بالتصدي والانشغال والمعالجة للمشكلات القائمة فحسب بل للقادمة أيضا.

وآخر الانتباهات تفيد بأن الدولة في العراق، التي لا يكون لها سيادة ناجزة توفر اكتفاء ذاتياً بالغذاء والدواء والمعرفة، سوف لا يكون لها مكان تحت الشمس. 

عندها سيكون الحريص على بيته الوطني منفتحاً لا منغلقاً ولا مقاطعاً، وبالمقابل ستكون البيوت الوطنية الاخرى متعاونة معه لا مخاصمة لبيته. وهنا لاخشية على أسرار وهويات وحقوق بيوت العالم، حتى لو أصبح العالم قرية كونية صغيرة يظل كل بيت فيها يتمتع بسيادة حرياته والعدالة الاجتماعية بين أبنائه. 

ولا خشية على السيادة بعد ذلك طالما أن القرارات والخيارات (بالتنازل أو بالتمسك بالحقوق)، مقترنة بإرادة كل شعب قادر على التعبير عن خياراته بحرية مطلقة قائمة على المساواة والعدالة الاجتماعية.

فالحرية المطلقة القائمة على العدالة الاجتماعية في كل وطن هي السيادة، التي ينبغي أن تسود بدلاً عن السيادة البودانية المطلقة (الصلبة) وسيادة العولمة المتوحشة(السيالة).

ونحن هنا نراهن على حركات الشعوب الاجتماعية غير المنفلتة، المنظمة بسلطات منتخبة ممثلة بالمؤسسات وسلطات شعوب موازية، ممثلة ايضاً بالمؤسسات ليصبح عالمنا عالم سيادة شعوب، لا عالم السيادة البودانية المطلقة (عالم شريعة الغاب)، ولا عالم سيادة العولمة المتوحشة (عالم غاب بلا شريعة)، لأن الشعوب لا تستاهل ماضيها في السيادة البودانية القومية العنصرية المتقاتلة، ولا تستاهل حاضرها في سيادة عولمة نيوليبرالية متوحشة.