مجتمع الاستهلاك

آراء 2023/06/21
...










 ميادة سفر 

يبدو أن التطور الكبير والمتسارع فرض نمطاً جديداً على حياتنا قائماً على الاستهلاك، معيداً تشكيل هويتنا الاجتماعية والثقافية، حيث ألقي الإنسان بين رحى السوق، لتبقى عجلات الاقتصاد والصناعة دائرة، ويغدو الكائن البشري مرتهناً لكل ما يعرض وساعياً للحصول على أحدث المنتجات، يمضي جل وقته في العمل ليظهر بمظهر المتحضر المواكب للعصر.

وقد رأى عالم الاجتماع زيغمونت باومان أنّ الفرد في المجتمع المعاصر قليل الصبر وسريع الإحساس بالملل، ينتقل بين السلع التي يربطه بها التزام مؤقت سرعان ما يزول.

"أنا أستهلك إذاً أنا موجود" أصبحت العبارة الأكثر تعبيراً عن واقع الإنسان في المجتمع المعاصر، وحلت محل "أنا أفكر إذا أنا موجود"، التي أسست لمرحلة تاريخية ونقلة في تاريخ الفكر والثقافة حين أطلقها الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، أصبح الوجود مرتبطاً بمدى قدرة الفرد على الاستهلاك، فإن تستهلك يعني أن تكون موجوداً ومرئياً في محيطك الاجتماعي ومقدراً من قبله وقادراً على الظهور بمظهر الإنسان الراقي والجدير بالاحترام، إلاّ أنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما مصير أولئك غير القادرين على الانفاق ومواكبة أحدث صيحات الإنتاج؟

هل يبقون على هامش الحياة بلا هوية ولا وجود؟

أم ما زال لدينا بعض الأمل بجعل العقل والفكر الهوية الأكثر رسوخاً في حياة البشر؟

في تاريخ وجود الإنسان على الأرض باعتباره كائناً حياً واجتماعياً، استطاع أن يلبي حاجاته الطبيعية ويشبعها من محيطه الحيوي، باعتبارها ضرورات لا بدّ منها لاستمراره، وحين لا يمكن أن يلبيها من الطبيعة ويتعذر وجودها يلجأ للعمل من خلال تحويل وتسخير عناصر الطبيعة لمصلحته، فكان العمل والحاجة لتلبية متطلبات الإنسان الأساس، الذي أوجد الإنسان العامل المنتج، فلم يعد عالة على الطبيعة والآخرين.

إلا أنّ العمل في ظل النظم الاقتصادية والسياسية التي ظهرت في العالم قيّد الكائن البشري الذي لم يعد حراً، ولم يعد هاجسه تأمين حاجاته الحياتية والمعيشية وحسب، بل تحول مع الوقت من كائن منتج إلى مستهلك، يمضي جلّ وقته في العمل يبذل جهوداً مضاعفة ليرتقي على سلم الاستهلاك الاجتماعي، ففي الوقت الذي كان الحضور الاجتماعي والمكانة مرتبطاً بالعائلة والتعليم والمركز المهني، أصبح مرتبطاً بحجم الاستهلاك والمظهر الخارجي ونوع السيارة والموبايل وماركات الملابس وأماكن السياحة التي يقضي فيها أوقات فراغه، وتحول الإنسان من مستَهِلك إلى مستهَلك.

في ضفة أخرى، لم يعد التحول إلى الاستهلاك خطراً على الكائن البشري الذي يقضي جلّ وقته مطحوناً في العمل مقابل ساعات قليلة من الراحة ليرضي بها محيطه الاجتماعي، بل إن الخطر الأكبر يبرز في قضاء الإنسان على كثير من الموارد الطبيعية، إذ تشير التقارير إلى أنّ معدل ما تستهلكه الإنسانية يفوق بكثير القدرة البيولوجية للطبيعة لإعادة انتاج ما استخدم من مواردها.

في جانب آخر يبدو أنّ مجتمع الاستهلاك الذي يعيش فيه الكائن البشري حوله إلى إنسان سلبي على حدّ تعبير الفيلسوف الاجتماعي إيريك فروم، بسبب زيادة الوفرة التي أدت إلى الملل، فقد رأى أنّ: "الحقيقة المرة في حضارتنا، أنّ الناس ليسوا سعداء، لأن الملل يخترق حياتهم"، يبدو أنّ الفائض من المنتجات التي تحتاج إلى جهود مضاعفة لاستهلاكها، وضعت البشرية كما يرى إيريك فروم أمام سؤال: ألم يعد ذلك كافياً، من خلال ما حصل من جنون الإنتاج والاستهلاك؟

يبدو أنّ الفارق بين الفقير والغني لم يعد كبيراً في عصر الاستهلاك هذا الذي نعيشه، ذلك إن أكثرية الناس لديهم أكثر بكثير مما يحتاجونه، وبالرغم من ذلك يشعرون أنهم فقراء! لأنهم لا يستطيعون مجاراة السرعة والكم الهائل من الإنتاج، كل ذلك خلق مجتمعات مريضة فاقدة لمتعة العيش والاستمتاع بالحياة.