علي المرهج
الفكرة الفلسفية لا وطن لها وإن صدرت من فيلسوف يعيش في وطن ويمتثل لقوانين مجتمع..لا تنتمي جمهورية إفلاطون لليونان فقط، بل تمتد ليحلم بها كل إنسان يعيش حياة مثالية، كما هو الحال مع المدينة الفاضلة عند الفارابي، التي استمدها من وعيه بما جاء في جمهورية إفلاطون، وكذا الحال مع فكرة ابن باجة عن الإنسان المتوحد أو ما قدمه ابن عربي في وحدة الوجود وقبله الحلاج في تصوره للحلول.
الكوجيتو الديكارتي جاء على لسان الفيلسوف الفرنسي ديكارت، ولكنها مقولة عالمية، رغم تجذيرها المحلي أو الوطني، لأن الشك الديكارتي صار أس المنهج العقلاني في الفلسفة الحديثة برمتها وما
بعدها.
لم يكن نقد فرنسيس بيكون لأوهام العقل يخص مجتمعه الإنكليزي، إنما كان نقدا لكل عقل يخضع لسلطة هذه الأصنام أو الأوهام، فيتصور أنها حقائق..
نقد العقل المحض ليست فلسفة كانتية ألمانية فقط، وكذلك مقال كانت (ما التنوير) أو (مشروع السلام الدائم)، رغم ارتباط ما قدمه جون لوك في (رسالة عن التسامح) بوضع له ظروفه، لكنها صارت رسالة لبث روح التسامح مع الآخر المختلف في كل بقاع الأرض.
أضاف نيتشه بنزعته العدمية للفلسفة جرأة خرق المألوف والسائد، ليكشف لنا عن زيف كثير من الرؤى الفلسفية السابقة له، لا سيما المثالية والتأملية َمنها، ليُحدثنا عن مفاهيم جديدة مثل (إنقلاب القيم) و(الإنسان السوبرمان) القادر على صناعة قيم جديدة تكسر صنمية الفكر السائد، وتُعيد لنا فهمنا للحقيقة، بوصفها صناعة سلطة فكر أو سلطة سياسية.
ما قدمه فلاسفة العقد الاجتماعي يدخل في ذات التصور، بوصفهم رسل سلام ومحبة ودعاة عقلانيين لتنظيم العلاقة بين السلطة والمجتمع.
لم يكن دفاع الفلسفة البراجماتية عن النتائج ونقدهم للمعرفتين العقلية والتجريبية، وكذا الحال مع المادية والروحية، والواقعية والمثالية، رغم أهمية ما قدمته للمجتمع الأمريكي من حل لمشكل الصراع القائم بين المذاهب والأديان وأطياف المجتمع، لكنها بقولها الماثور (إن قيمة اية قضية تكمن في النتائج المتأتية من تبينا لها)، إنما صارت فلسفة إنسانية يوظفها الغربي والشرقي على حد سواء..
الفلسفة خطاب كوني وإن كان فيه خصوصية وطنية.
يربط ناصيف نصار بين «الخصوصية» و»الكونية»، والفلسفة ذات طبيعة كونية، لأنها لا تختص بجماعة بعينها، وهو يستخدم مفهوم «كوني» ويرفض استخدام «شمولي»، لأن في المفهوم الأول إشارة ورمزا عن الفلسفة بوصفها تعبيرا أنسني، لا إقصاء فيه ولا قمع لرؤى أُخرى مُغايرة، أما مفهوم «الشمولي» فهو نزوع لا أنسني، يحمل في طياته نزعة إقصائية لكل ما هو مُختلف بقصد إلغاء الأبعاد والإبقاء على بعد واحد، بوصفه هو البعد الأمثل للتعبير عن المعرفة الأكمل، ولكن نصار يميل لكونية الفلسفة، لأنها ليست مخصوصة لجماعة دون غيرها، لأنها تنظر إلى الإنسان بما هو إنسان، بمعزل عن جنسه أو شكله، أو عرقه، أو دينه، أو طائفته، وليس من شروط الفيلسوف أن يكون فكره شمولياً، فلربما يكون هناك فيلسوف يهتم بجانب مُعين تجد في رؤاه وأطروحاته ما يُغنيك ويُثريك في المعرفة والوعي، بهذا الجانب ويشدك إليه أكثر من الفيلسف الشمولي «النسقي»، الذي يهتم ببناء رؤيته خارج إمكانية تحققها في الواقع، لأنه يعيش وفقًا لنزعته الطوباوية والدوغمائية، التي يعيش مفكروها بأبراج عاجية منفصلين عن مجتمعهم.
هذا النمط من التفكير الفلسفي إن وجد عند فيلسوف ما، تأكد أن هذا الفيلسوف قد غادر نزعة الفلسفة في البحث عن الحقيقة، ليضع نفسه موضع الطوباويين ممن أمسكوا بالحقيقة قبل البحث عنها، وفق منطق العقلاء في الاستنباط أو الاستقراء، أو بمنطق (القياس) الأرسطي
حتى.
إن من يريد أن يكون متفلسفاً أو يبني فلسفة لها خصوصيتها، عليه أن يتخلص من عقدة تاريخ الفلسفة، وأن يمارس النقد والتقييم على ما يقرأ وما يكتب، وأن يعيش حياة مجتمعه وينظر إلى مشكلات المجتمع قبل أن ينظر أو يعيش مشكلات، هي ليست من صميم معاناة المجتمع الذي ينتمي إليه، لذلك تصح مقولة «أن الخصوصية، هي الطريق للكونية»، وهذا ينطبق على الخطاب الفلسفي، ولا يشكل خللًا حينما نصف الخطاب الفلسفي بأنه خطاب كوني. فالقول من أن الفلسفة معجزة يونانية، لم يمنع من تحولها لتكون خطابًا كونيًا، والحال ينطبق على باقي تمظهرات الفلسفة، فالفلسفة الألمانية ذات طابع مثالي، والفلسفة الإنكليزية، فلسفة تجريبية، والأمريكية فلسفة براجماتية، والفلسفة الفرنسية فلسفة انشغلت بالبحث في الإنسان وعن الإنسان، والحال ينطبق على باقي الفلسفات، بما فيها الفلسفات القديمة مثل الكونفشيوسية والبوذية وغيرها، وكل فلسفة من هذه الفلسفات لها خصوصيتها وطابعها الذي أوجبه البيئة التي ظهرت فيها، ولكن هذا لم يجعلها خاصة بالمجتمع الذس ظهرت فيه، بل تحولت إلى خطابات فلسفية
كونية.