طالب عبد العزيز
عليكَ أنْ تعودَ بنا في الرابعةِ فجراً
المركِبُ الذي سيقلّنا إلى هناك لن يتأخر كثيراً..
سائقُه إنجليزيٌّ جلِفٌ
ومِقعدي قربَ الموقد، لا أريدُ التفريطَ به ..
فلا تُرخي عنان الوقتِ أكثر.
أنت لم تلحظْ حذائي وقبّعتي تحت السرير،
ساعةَ دخلتَ .. شددتُ أربطةَ الحذاء،
وعلقتُ القبّعةَ بقائمةِ السرير
تحسّباً للرّيحِ التي ستهبُّ.
************
البندقية المُعلّقة بواجهةِ الحائطِ حقيقيةٌ
الحمّالةُ والخراطيشُ، جدّي أتى بها من الحرب
التي لم يعدْ منها بعد..
التقيتُه، عندما كان رأسُ السنةِ قريباً،
ثلجٌ كثيرٌ نزل من لحيته، في الليلة تلك،
وعلى النافذة ظلّتْ النجومُ تراشقُ بعضَها
أطرى قَصَّةَ شعري، وتفقَّد شيئاً تحت الوسادة
في الغابة المكتظة بالنخل والفراشات
تحدثَ كثيراً عن الملائكة، الذين لم يولدوا
وعن الوصيفات، يحملن ثيابَ سيداتهن
ومثلما يفعل السَّحرةُ في ليالي شكسبير
كان يأتي لنا بملاكٍ صغيرٍ أشقرَ
من كلِّ جدولٍ يهبطُ ماءَه.
حتى امتلأت الارضُ بالعيون الزُّرقِّ
والأشرطة الملونة ..
أنا، وقفتُ ببابِ المُعجم، أتحدثُ عن الجاحِظ
وعن الاخضر بن يوسف، تعصفُ الغربةُ بقميصه
وهو يُنشدُ السبيلَ إلى ملاك آخرَ
أفّلتَ يدَهُ في العاصِفة .
*
الشجرُ التوتُ مازال صُلباً تحتمي المَيضأةُ به
والإوزُ الحمامُ يطيرُ في كتابٍ لاكزوبري
أنتَ لم تلحظْ البندقية إذنْ
لم تلمسْ الخشبَ المهاجونيَّ الاسّوَدَ،
تخرجُ المرأةُ من أعاريضه منشدةً :
"مضينا فيا وادي العقيقِ تذكّراً – وعُدنا فيا وادي العقيقِ أمانا ..."
ويتلفتُ السعفُ الخديجُ بعنقِها
في الجداول التي حملتنا قواربُها إلى هناك
ولم يتوقف المطرُ على صفصافها
ارتفعت أصواتُ المُنشدينَ عالياً
وسقط البرقُ سكاكينَ على أجنحة الملاك
أنا ترددتُ بقول ذلك عنه، كنتُ أظنَّك قرأته ..
ثم أنَّهم لاذوا جميعاً بعِصمته
كانَ طويلاً، والبندقيةُ ما تزال على كتفه
لكنَّ العاصفةَ أسقطت مصباحَه الاخير
فتحَ جدّي فمه، ليقول كلمة
صمتنا. الانهار، والجداول، والشجرُ التوتُ ايضاً
كان خيطُ الضوءِ نحيلاً وشاحباً
ويرتدُّ في جوفِ السماء.
تهدأُ العواصفُ بموت الشاعر، فيرينُ الظلامُ على الكون، ويعمُّ الفراغُ الغبيُّ. منذُ أنْ أخفق بقراءة قصيدته (نهايات الشمال الافريقي) وخرَّ من منصّة الشِّعر، بمربد البصرة، مغشياً عليه، أول السبعينات إلى اليوم وسعدي يوسف شاغلُ الشعر ومالئ الدنيا. الشاعرُ الذي ظلَّ يجيئنا بكتاب كلما ماتت القصيدة، هو الذي أعاد للشعر قيمته وأهمية حضوره بتعبير محمود درويش.
ذات مرة قال لي: "الشاعرُ غير". لم أتامل الكلمةَ كما يجب، وهو المعلوم عنه إقتصاده في اللغة والمعنى، كان يقولُ على الشاعر أنْ يكتبَ الشَّعر حسب، وإذا توسَّعَ ففي الكتابة عنه. كان محمود البريكان أيضاً يقول:" الشعر هو الذي تكرّس له حياة كاملة". إنه ليحزننا والله ألّا يكون بيننا شاعرٌ مثل سعدي يوسف؟ يا لها من حياة يستوفيها البعضُ بالجحود، وتأبى ألّا تستوفى إلّا بالشعر.
أقصى النَّخل، كان بيتُه
وأقصى السِّباخ ..
على تِرعةٍ لا تخْرِقُ القواربُ ماءَها،
ولا يتوقفُ عندها الرُّواةُ السُّوءُ والزناة
اليه يصعدُ الكَلِمُ النَّحوُ المصطفى
وتجثو عند قدميه المعاجمُ والقراطيس
تحت خوخةٍ من آجرٍ وطين
جلس السعديُّ يُحصي الذين أخذوا تلاوةَ الاملِ عنه
فكانوا عشرةَ آلاف ويزيدون ..
ليته لم يبك تضاءَلهم على الطرقات
ليت المنارةَ رتْقٌ في السماء
ليتَ الولدَ لم يتعجّل النَّهرَ حيث استراح
كان مسجدُه قسعفاً ومصاحفَ لا تحدُّ
لم يصححْ أحدٌ قبلةَ محرابه.
الشيخُ الذي لا تُهْبَطُ مَيضأته إلّا من وراءِ نخلة
خطَّ على الترابِ قصيدته، ومضى.