لكي لا يظمأ العراق

الصفحة الاخيرة 2023/06/24
...

جواد علي كسار

سأمهّد للفكرة بمثال قريب منا، ففي غمرة الاحتجاجات التي ضربت إيران نهاية الصيف الماضي، خرج صوت من أقصى المدينة محذّراً، بأن أزمة البلد الأولى ليست سياسية ولا حتى اقتصادية، فضلاً عن أن تكون اجتماعية، بل هي بالدرجة الأولى أزمة شحّ المياه ومخاطرها، ثم تأتي من بعدها بقية المشكلات.
في الأسبوع الماضي تجلّت واحدة من مظاهر هذه الأزمة، بانقطاع مياه الشرب على مدار أيام، عن عدد من أحياء العاصمة طهران وضواحيها. قد يقول قائل إنه قياس مع الفارق، فنحن خلافاً لإيران وأيّ بلد آخر يعاني من هذه الشحة، لدينا نهران هما من العلائم الوجودية لهذا البلد منذ الأزل، إذ ما كان يعني مصطلح بلاد ما بين النهرين، إلا الإشارة إلى دجلة والفرات وهما يرويان أهله وتربته منذ الأبد.
أقول من دون تشاؤم أو مبالغة وتضخيم، ربما أصبح هذا الكلام من الماضي وسط معاناة النهرين مع تركيا وإيران وسوريا، أو أن الأمر أصبح مشوباً بمشكلات عسيرة على أقلّ تقدير، وواقع النهرين جليّ أمام أنظارنا جميعاً، يكشف عن انحسار مؤلم ليس لمنسوب المياه وعمقها وحسب، بل وعلى مستوى المياه السطحية التي راحت تنحسر عن مجراه، وهي تكشف عن أراضيه في بعض المواقع.
منذ أوائل السبعينيات والرسمية العراقية تتحدّث عن أزمة المياه مع دول الجوار، تركيا وسوريا وإيران، وفي نهاية التسعينيات فُتح الملف تخصّصياً، وطرقته عقول المختصين بالتحليل والبحث وترسيم الحلول، وهكذا جرى الأمر ما بعد التغيير، لكن من دون تأثير مباشر على واقع المشكلة، التي من الممكن أن تتحوّل إلى أزمة في أي وقت.
ملخص ما نقرأه من كتابات المختصّين، التأكيد على زيادة عدد السدود، وتبديل وسائل الري الزراعي التقليدية الموروثة إلى الشبكات المتطوّرة التي اجتاحت بلدان العالم من حولنا، وتقليص استعمال المياه العذبة في الصناعات وأقصد بها استخراج النفط، والعناية بحفر الآبار والمياه الجوفية، وترشيد استعمال المياه داخل المدن.
في الزراعة مثلاً أذكر أن إيران فرضت قيوداً على زراعة الرقي ومحاصيل أُخر لكثرة ما تستهلكه من مياه، ومنعت من تصديرها. وبشأن ترشيد الاستهلاك لم تزل ترنّ في أذني صيحة الراحل حكيم عبد الزهرة، وهو يصرخ بتوجّع قبل أكثر من عقدٍ: هل من المعقول أن تستهلك بغداد من المياه العذبة يومياً، قدر ما تستهلكه اسلامبول، مع أن التفاوت كبير في السكان، يصل إلى مستوى الضعف تقريباً في اسلامبول مقارنة ببغداد؟!
أخيراً، إذا آن وقت الأزمة فهي لا تستأذن أحداً ولا تجاملنا، وقد أردتُ لهذه الكلمات أن تكون تحية لمركز البيان، مع صدور كتابه الجديد: قبل أن يدركنا الظمأ: أزمة المياه في العراق من سياسة الدولة إلى سياسة الأرض!.