{في انتظار غودو} بهويَّة سوريَّة

ثقافة 2023/06/25
...

 بيتي فرح


حظي الكاتب الايرلندي "صموئيل بيكيت" بشهرة واسعة حوّلت أعماله إلى تراث عالمي وأدب إنساني، المسرحي والشاعر والروائي ذو المخيلة الواسعة، وهو المدمن على الأفلام الصامتة وخاصة أفلام شارلي شابلن التي أسهمت في جموح مخيلته، عمل أيضا في مجال الترجمة ومراسلا أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث انخرط في المقاومة ضد الألمان، لتؤثر هذه الأحداث مجتمعة على مجريات أدبه الذي اشتهر بالوضوح والسلاسة، وفي عام 1945 الغني بأحداثه المهنية والخاصة في حياة الكاتب كان أهمها زواجه من صديقته في الحرب سوزان التي كان لها بصمة في وجدانه، وكتابة المسرحية الخالدة "في انتظار غودو" الملهاة التراجيدية، التي تعد إسقاطا على الواقع الإنساني أينما حل، خاصة بعد تعرّف "بيكيت" على الأديب الايرلندي الكبير "جيمس جويس" المنتمي إلى مدرسة "الأدب العبثي" وتأثره به، ليصبح فيما بعد تلميذا لـ "جويس"، واللافت أنه نال جائزة نوبل التي لم يحصل عليها أستاذه. وبعد وفاة زوجته، اختار حياة العزلة، ليتوفى بعدها بفترة ليست بطويلة في عام 1989 .

 احتضنت مسارح العالم الغربية منها والعربية العمل المسرحي "في انتظار غودو" حيث تدور أحداثه حول شخصين نال التشرد واليأس من سعادتهما، فاعتزما الوقوف لمدة يومين في بقعة قاحلة بجانب شجيرة تحمل خمس أو ست وريقات فقط، تشبههما في فقرهما، ينتظران شخصا اسمه غودو سيخلصهما من هذه الحياة البائسة، ويعد اختيار الأرض القاحلة كناية عن عصيان القواعد المسرحية لأرسطو التي تقوم على الزمان والمكان والحدث، ليتحول الزمان إلى يومين من الانتظار الفارغ، والمكان هنا يمقت الديكور، فكان عبارة عن أرض قاحلة، أما الحدث فقد تميزت المسرحية بغياب النهاية كما الواقع المجهول اليوم، والسخرية تكمن في البطلين اللذين على يقين بأن غودو لن يأتي، وكأن جينات الانتظار وحدها من توحّد البشرية في جميع الأعمال المسرحية التي تناولت قصة غودو وانتظاره، تشبه إبرة أدرينالين ضد اليأس وجرعة أمل مديدة المفعول، لتستوقف هذه الشخصية القارئ والمتفرج كما النقّاد، ويفسّر كل على طريقته شخصية غودو المجهولة والإشارة إلى قدرتها السحرية على الخلاص، هل غودو رجل مجهول قادر على تحويل مجريات الامور؟ أو صديق صدوق يحمل في جعبته أدوات المساعدة لأصدقائه؟ أو ربما إله يخلص بيمينه البشرية من بؤسها بحبه ورحمته؟ مسرحية تقول الكثير من دون أن تتكلم، تتبرأ من انتماء الزمان والمكان، حتى أنها قليلة الشخوص ممن يسببون الضوضاء على الخشبة.

المسرح السوري ينتظر غودو أيضا، تعد الأعمال المسرحية السورية التي تجرأت فنيا على تخطي تفاصيل النص العالمي المقتبس زهيدة بعض الشيء، لتضعها في سياق مختلف من تاريخ كتابتها ولكن بتوليفة درامية حافظت على النواة من دون انتماء سياسي واجتماعي معلن، وهذا ما حققه عرض مسرحية "انتظار" للمخرج طلال لبابيدي، حيث طوّع غودو الأصلي من دون أن يُجبر بشكل مباشر على محاكاة الواقع السوري، لقد تابع جمهور مسرح القباني تحوّل فلاديمير إلى آدم الذي توفيت زوجته الحامل إثر تفجير سيارة مفخخة، و أستراغون إلى أيوب الذي فقد ولديه غرقا في قوارب الموت في البحر، واستعاض المخرج عن شخصية الغلام بالصبية فلك العروس التي تنتظر عريسها المفقود نوح، وفي المسرحية العربية تجد الجميع يدور حول شخصية نوح بدلا من غودو، دلالة على فضول المتلقي العربي وخوفه من المجهول الغامض، أما فرعون تاجر الحرب الغارق في عجرفته يجر عبدا كان موثوقا من رقبته في سيناريو بيكيت، لكنه يظهر نشال حقائب ولصاً في العرض السوري "انتظار" الذي راعى طبيعة الشخصيات وسلوكها خاصة شخصية البطلين، مع المحافظة على الخيط الذي يجمعهما وهو: "تعرف الأشياء وتفعل نقيضها".  

رائعة بيكيت التي احتوت الكثير من المقومات الجمالية في كل شيء لتصنّف بحق أنّها من أهم الأعمال العالمية في عالم المسرح، بتقديمها أيقونة مسرحية عن حقيقية ما يعانيه إنسان الحقبات كلها، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية والضياع والتشتت في المعمورة، وتشير إلى إحساس الغربة داخل الوطن ومحاولات الانتحار التي تشير إلى كم الاستنزاف في الشخصيات نتيجة الحياة البائسة، تناقض يضيف إلى الحبكة رفض الاستسلام والرغبة بالحرية في حوار مسرحي عبثي قصير بعيد عن الرابط الوجداني أو الحيوي، وإن أردنا سرد التفاصيل اليوم سنعرف أن بيكيت أراد ترويض الإنسان على أمر واحد وهو الانتظار. والنزعة الطاغية هنا هي التمرد على عناصر أرسطو المسرحية، لتكون الفكاهة والسخرية بديلا عن البؤس والألم للتأكيد على ما قاله بيكيت إنه "لا شيء يثير الضحك والسخرية أكثر من البؤس".

لقد طغى الطابع الساخر على جوهر العلاقة بين أستراغون وفلاديمير اللذين لا يتفقان ولا يستطيعان الافتراق عن بعضهما في الوقت نفسه، ومحاولات الانتحار سوياً محاولة لإظهار العلاقة بين العقل والمادة أو الروح بالجسد على نسب مختلفة، إلا أنها بقيت في المسرحية السورية أكثر تقاربا وتناقضا، والشذوذ قليلا عن غورو الايرلندي الغارق بالعبثية المتجلية في إطارها الغيبي، من خلال المحافظة على المسحة الوجودية في "انتظار". ولكن تبقى قذارة الحرب هي القاسم المشترك بين العرضين رغم فتح أبواب التكهن على مصراعيها.

تبقى مسألة الزمن حاسمة في نصوص بيكيت، مع التركيز على عنصر الصمت الذي تجاوزه العرض السوري لهدف إيصال الفكرة لشرائح الجمهور من المتفرجين كافة، والابتعاد قليلا عن الرتم التشاؤمي للمستقبل في النص الأصلي حيث تغرق الشخوص في السوداوية والحزن بسبب الزمن وطول مدة الانتظار، كل ذلك ظهر في "انتظار" بطابع ساخر مرير أقل جرعة من الأصلي ويتبع الخطاب المباشر محاولا الابتعاد عن الشعور بعدم المنفعة والمرارة من الانتظار العبثي المجهول، وهي لعبة العرب في محاكاة الأمل حتى وإن كان كاذبا، لقد حافظ العمل السوري "انتظار" على حلته بإبقائه على رمزية الحدث، بالمحافظة على العنصر البصري من خلال الشجرة التي توسطت المسرح، وحبل فرعون الطاغية عند الجذع اليابس. وشح الديكور تيمنا بالأرض القاحلة. وكان انتظار الشخصيات لنوح تذكير بطوفان نوح العجوز الصالح الذي فصل الخير والشر على متن سفينته الهائلة. ومن ثم خلق "انتظار" فكرة جديدة نتيجة الطوفان تنسجم مع التطلعات إلى العيش الكريم والسلام، ولا بدَّ من التنويه إلى دور الإضاءة والإعداد الموسيقي الذي كون مع الشخصيات عملا مسرحيا متكاملا ليستوفي عناصر السينوغرافيا، ويبقى انتظار غودو متناغما مع انتظار السوريين لحاضر ومستقبل يكون أكثر وضوحا وإنسانية.