إبراهيم العبادي
في العام 2021 أكمل العراق الحديث المائة الأولى من عمر الدولة ودخل في المئوية الثانية وسط انشغال كبير باليوميات الصاخبة المزدحمة، لم تنتبه النخبة العراقية لهذه المناسبة -إلا قليلا - رغم أنها كانت فرصة ممتازة لإعادة تصنيف المشكلات والتحديات والعوائق، التي منعت العراق من أن يدلف إلى المئوية الثانية بقدم راسخة وأفقٍ مفتوح ورؤية واعدة
فكرة التحقيب المئوي فكرة ممتازة تسمح بقراءة التاريخ قراءة شاملة وفق منهج مدرسة الحوليات الفرنسية، إذ إن المئة عام في عمر الشعوب والدول تعد مدة ليست قصيرة، فهي كافية لقيام دول وانهيار أخرى، وولادة أفكار ونظريات واندثارها، بينما صار العمر العلمي يحسب بأجزاء السنة الواحدة، بسبب تسارع الثورات العلمية وتراكم تراث معرفي هائل يتزايد مع إشراقة كل صباح.
وكل ذلك يترك نتائجه المباشرة وغير المباشرة في بِنية الفكر والثقافة والاجتماع والاقتصاد.
انقضت المئة عام الأولى على الولايات المتحدة الأميركية بعد إعلان الاستقلال عام 1776، بقيام دولة مترامية الأطراف واقتصاد هائل وديمقراطية راسخة واستعدادات كبيرة لولادة دول عظمى تنافس على زعامة النظام الدولي بعد حرب أهلية واضطرابات غير قليلة، الفرنسيون أكملوا المئة عام بعد ثورتهم سنة 1789 باضطرابات داخلية حادة وحروب نابليونية استباحت أوروبا وصراعات واسعة، لكنهم حافظوا على مصالح الدولة العظمى التي تدير مستعمرات لا تغيب عنها الشمس.
الألمان أعادوا بناء بلدهم مرات خلال المئة عام، التي أعقبت إعلان الوحدة الألمانية عام 1871 على يد بسمارك العظيم، وتنقلوا بين أيديولوجيات ونظم مختلفة ثم انتهت حصيلة انتقالاتهم العنيفة إلى دولة رائدة تقود أوروبا عملياً.
الروس من جهتهم عاشوا مئة عام بعد ثورتهم الاشتراكية العظمى عام 1917 ليجدوا أنفسهم وقد جربوا الاشتراكية والثورة الأممية ووحدة الطبقات العمالية والبروليتاريا ثم عادوا بعد مئة عام إلى الرأسمالية والأوليغارشية وهاهم يحاربون اليوم في وسط أوروبا تحت أوهام نظريات الأسكندر دوغين والأوراسية الحضارية.
الأمثلة تطول عن نظرية القرن (المئة عام) وحساب القرون في حياة الشعوب وأثرها الكبير في صنع مصائر وتخطيط مسارات وتحديد نهايات.
إسلامياً يتداول المسلمون حديثاً يربط حركة التاريخ بتحوُّلات الفكر والسياسة والأخلاق بالعناية الآلهية (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدِّد لها دينها) (سنن أبي داود السجستاني )، فصار التجديد والإصلاح مرتبطين بفكرة المصلح المئوي ولا يعدم المهتمون بالدلالة الحرفية لهذا الحديث، الذي يوصف بأنه (صحيح ) أن يضعوا قائمة بأسماء المجدّدين والمصلحين، الذين تركوا أثرهم الكبير في حياة أمة الإسلام ودولها العديدة.
تركيا وريثة الإمبراطورية العثمانية تستعد من جهتها للاحتفال بمئوية الدولة (العلمانية) الحديثة، ومبدأ الحساب كان إعلان (الجمهورية 1923) وإلغاء الخلافة عام 1924 والسير على غرار نموذج الدولة الحديثة الأوروبية.
ويبشر الرئيس رجب طيب أوردغان المعاد انتخابه حديثاً، الأمة التركية بأن القرن الحادي والعشرين الحالي سيكون قرن تركيا العظمى المتجددة، بوصفها واحدة من الدول سريعة النمو والتقدم في شتى المجالات.
ماذا أعد العراق لمئويته الجديدة؟ لنعترف أننا في العراق، ما زلنا نعتمد منهج تحليل الماضي لنتوصل إلى فهم سليم لمشكلات الحاضر بأمل التوفر على رؤية مستقبلية مفارقة، قضينا السنين نحاول فهم الفرد والمجتمع والدولة والهوية والسلطات وأنظمة السياسة والاقتصاد والقيم ودور الدين ومساحة شموله والأحزاب والدستور والقانون، حصيلة ذلك عشرات المؤلفات ومئات الأبحاث وما زالت الندوات والمؤتمرات والبحوث، تتناول ذات الموضوعات ولم ننتهِ منها، الجديد في الأمر أن الحقبة الراهنة صارت تتحدث بالمكشوف بلا تابوهات ولا ممنوعات ولا قدرة للسلطات - كل السلطات -على التقييد والمنع، هذه علامة مشجعة على التفكير الحر والموضوعية، والكشف عن المسكوت عنه وغير المفكَّر فيه، تتعدد الرؤى والمناهج لا بأس، لكن الحصيلة ستكون أثرى وأعمق وأجدد خصوصاً بعدما توغَّلت نظريات التفسير عميقاً في طبقات المجتمع والدولة.
ماذا نحتاج اليوم؟
لقددخلنا في المئة الثانية من عمر الدولة ومازلنا نتناول قضايا القبيلة والطائفة والقومية والمذهب وإنفاذ القانون وريعية الاقتصاد، ولم نسجل قطيعة مع متعلقات عصر ما قبل الدولة، أي أن المنجز المجتمعي بعد مئة عام كان ضئيلاً وربما ارتكاسياً وتراجعياً، سؤال اليوم يعيد التذكير بما ينبغي للأمة أن تفعله لتأمين مستقبلها، وسؤال المستقبل يدعو إلى بناء مقدمات رصينة لبلوغ أهداف ذلك المستقبل.
في المئة عام المنصرمة عاشت الأجيال العراقية لحظات الثورات والانقلابات والفوضويات والتمردات والاحتلالات والشموليات والصراعات الحزبية والقومية والعنف مترافقة مع التأسيس وإعادة التأسيس والهدم والبناء، تتوفر الآن خلاصات وعي متراكم مصحوب بندم على أفكار وسلوكيات ومواقف وسياسات انتجت عراق اليوم، أما عراق الغد فإن ملامحه غير واضحة تنتظر الإجابات من نخبة السياسة والأحزاب والجمهور، الذي يبدِّد الوعي وينسى كثيراً ويكرر ما سلف من أخطاء.
كي يرى العراق طريقه المستقبلي يحتاج إلى تضافر مجتمعي ولحمة وطنية ورؤية تخطُّها نخبة المجتمع وتحرسها السلطات بعناية وتنفذها رجالات دولة غير مأسورة بفكر مأزوم.