إحسان العسكري
كغيره من الموهوبين سُرقتْ أعماله ونُسبتْ لغيره، يوهانس فيرمير فنان الحياة الحقيقيَّة المُغيَّب الذي ولد في قرية هولنديَّة عام 1632 وأصبح فيما بعد من أشهر فناني العالم عبر لوحاته الـ 32 لوحة والتي اتّسمت بالدقة والموضوعيَّة والإتقان الإخراجي والفني والذوق الرفيع والمميز في اختيار الألوان ودمجها.
فلم يشهد العالم لوحة واقعيَّة تعبيريَّة بجمال لوحته الشهيرة "الفتاة في القرط اللؤلؤي" والتي زيّنت متحف ماورتشوس – لاهاي منذ عام 1902 على الرغم من أنه رسمها مطلع القرن السابع عشر وهي من أروع وأجمل لوحات التصوير الشخصي الخيالي التي جمعت الواقعيَّة والتعبيريَّة بأسلوب البورتريه.
اعتمد فيها رؤيته الواقعيَّة لفتاة أوروبيَّة ترتدي الزي السائد في تلك الحقبة، مضيفاً له قرطاً من اللؤلؤ كبادرة إثارة للمُشاهد فقد جمع بعض التناقضات المخالفة للواقع، إذ ليس من السهل أن ترتدي فتاة بسيطة قرطاً ثميناً بهذا الحجم، وكأنّه يريد أن يقول إنَّ قيمتك ليس فيما تُظهره بقدر ما تؤمن به، فمكامن الجمال الإنساني هي أهم ما يميز شخصية الفرد وتجعله متميزاً في المجتمع.
بهذه الرؤية البعيدة اعتقد أن فيرمير هو من تسبّب لنفسه بالأذى، إذ قفز على مفهوم العمر الفني للفنان وتجربته لدرجة أن بعض النقاد نسبوا أكثر لوحاته لغيره، ولكن إنصاف التاريخ يفوز دائماً بمباراته مع التدليس وإخفاء الحقائق لا سيما أن الفن والأدب يشكلان روح المجتمعات المنبعثة من صناعهما.
فحين يختفي الصانع من الحياة يترك فراغاً لا يملؤه غير التاريخ المنصف.
وهذا ما حدث مع فيرمير فقد أخذه خياله بعيداً ليؤسس لنظريات حياتية أسهمت بشكل واضح في تطوير محيطه عبر لوحاته فبعد الفتاة الهم هذا الفنان العقل الأكاديمي المؤمن بالفن أن يستخدم رؤاه الخيالية في ترجمة واقعيَّة تطبّق في الحياة الحقيقيَّة بالاعتماد على لوحاته التي تصور المباني والقصور التي طُبّقت حرفيَّاً على أرض الواقع كـلوحته "الشارع الصغير" التي رُسمت فيها بالزيت على القماش مبنى عصري لم يكن موجوداً بكثرة في هولندا لتتحول هذه اللوحة إلى تطبيق عملي في شوارع المدن الأوروبيّة العظيمة.
فبالإنسان ابتدأ وبإنجازاته نجح وباحترامه تألق.
وكانت لوحته "الخاطبة" هي عبارة عن ثورة على عادة لا أحترمها شخصياً، إذ كانت مهنة الخاطبة سائدة في تلك المجتمعات بكل ما تتبعها من إساءة لكيان وهوية المرأة بالتعامل معها كسلعة تُعرض على من يطلبها ويدفع ثمنها، ففي هذه اللوحة تظهر الخاطبة برفقة رجلين في وضع موجع لمن يقرأها بعناية، ربما أراد فيرمير أن يوصل من خلال أسلوب اللوحة المثير للتساؤل (إن جاز لي التوصيف) أن يرفع الغطاء عن قبح هذه الظاهرة بعقلية الفنان المبدع، فلم يتعدَ حدود الجمال، بل وضع كل شيء خاضع للرؤية في مكانه فالمرأة في اللوحة كانت امرأة مثيرة والرجلان كانا كذلك.
وهنا يكمن سر فرض النظريّة الفنيّة على الحياة الواقعيّة وإن رفضتها الأخيرة.
وليس بعيداً عن الخاطبة وحكاية المرأة في ذهن فيرمير كانت "ساقية الحليب" تمثل انتقالة عظيمة من الواقعيّة إلى الواقعيّة الفائقة في ذلك الزمان رغم عدم إعلان هذه المدرسة كمنهج جديد في إخراج الفن التشكيلي وتسامي الواقعيّة إلى مرتبة أعلى منها بذات الهوية والأسلوب.
وتعد "ساقية الحليب" من أجمل الأعمال التي توضع في جدول اللوحات المصنفة عالميّاً على أنها واقعيّة وهي في الحقيقة واقعيّة فائقة تغلّب بها الفنان على رتابة ذاته لا سيما أنّه كان من المقلّين في إنتاج الأعمال حتى قيل أنه كان يرسم في العام الواحد لوحة واحدة أو اثنتين أو ثلاثة في أقصى جهد يبذله.
عاش هذا الفنان حياة مليئة بالصراع مع المعتقد الديني وأحبّ فتاة كاثوليكية وتزوّجها بعد معاناة أنهاها هو برسم صورة للمسيح كتعبير منه عن إيمانه وإعلان تديّنه، إذ إن بعض الكنائس في تلك الفترة كانت تحرّم بعض الفنون وتجرّم روّادها إلّا أنّه انتصر للعقيدة بفنه وتزوّج حبيبته ذات الجاه والمال حتى أنهم أجبروه على الحد من التواصل مع أسرته التي تنتمي للطبقة الفقيرة.
تفوّق فيرمير على العُقد الاجتماعية وأسس لنفسه اسماً ومكانةً تليق به ثم ترك إرثاً أضيف للتراث العالمي ما زالت كبرى متاحف العالم تتزيّن بلوحاته الرائعة مستخدماً المرأة والطبيعة والبناء وكل ما يتعلق بمتطلبات المجتمع المدني، فهو فنان أجاد رسم الحياة بكل تفاصيلها وأنتج أعمالاً ما زالت خالدةً ونافست أعمال كبار الفنانين على الصعيد العالمي في عصره وما تلاه، ولما تزل بذلك الجمال إلى يومنا هذا.