ياسين طه حافظ
لسنا بطرين حين نرتدي جديداً، حين نجدد صبغ بيوتنا، حين نعيد تنظيم الحدائق أو نبدل الأثاث أو نغيّر مقام الزيارة أو الإقامة. فهكذا من الأمور البسيطة تبدو قضية الإنسان المخفية عن الناس وعن أكوام الاحاديث. هو القلق الصعب، اللا رضا بالإقامة وتكرار ما يرى، وتكرار ما يتذوق وما يعايش وما يعمل كل يوم بلا خفقة تحول بهيج، أو في الأقل بلا نجاة من التكرار..
الأكثر المهم لنا، نحن كثيري الكلام في القراءة والكتابة، هو تجنب المعروف والمكرر فيما نقرأ وفيما نكتب وفيما نتحدث عنه.
الإنسان يريد يعيش ويعيش يوماً آخر غير يومه الذي يحياه. يترك الذي مضى ويريد آخر أغنى، أجمل، مختلفاً بلونه ومذاقه. هو هكذا يمشي قدماً على ساقين، لا يسترجع خطواً مضى هو يخطو مما يمضي لما يأتي. ودائماً بانتظار انبثاقة، فعل مبهر، بهجة تأتي عالقة بخبر، ولا نستكثر عليه انتظار معجزة!
ما علّمتناه المفاجآت أن البهجة، أو الفرح بالجديد، أو غير المتوقع لا يأتي مما مضى من الأفعال والدقائق. ولا أيضاً مما يصل أو يقترب.
هو ينبثق من المسافة القصيرة بينهما، من الفجوة الفاصلة، لانتظارنا والتوقّع وليس أيضا من التصخاب حولنا. هو يأتي، ينبثق من قدحة الفكر ومعها خفقة السعادة بالطارئ، والدهشة. ثراء مخفي بين القديم والجديد، بين ما كان وما سيكون.
لذلك، نحن ننأى عن المخاضة الراكدة والقديم الذي عرفناه، فحيث القديم الراكد، مدافن أخطائنا وتجاربنا وأخطاء وتجارب سوانا. وهنا لا تطيب الرؤية ولا أيضاً يطيب الحديث. في المناقع وحيث الركود والتشابه حيث مقابر ما مضى، تضمر المعجزة، تموت مختنقة، ولا أمل طبعاً بعبقريَّة تشتعل.
فحين يجيءُ ما سبق أن رأيناه، ما قرأناه او قرأنا مثله، ما سبق أن كتبناه أيضاً، الملل هو المبادر لنا لا الفرح. لا أحد يرتضي ما كان من قبل وغادره. الثوب القديم يبقى قديما وإن كان جميلاً او كان يوماً ثميناً.هل قلت، حين يصل المكرر؟ معنى هذا يصل التراب الذي يطمر تطلعنا فلا حياة طلْقة ولا التماع ولا هزة فرح. قد نحتمل مجيء ذلك وثقله او السأم منه او انكسار التوقع. لكنه، وهنا الخسران، حرمنا فرصة المتوقَّع الأكثر توهجاً فلا خفق سعادة يبادر عزلتنا الصامتة، حرَمنا الوعد الجميل بما سيكون. وبدلاً من أن يمنحنا قوة حياة، أطفأ بعضاً مما فينا.
الإنسان، فرداً أو جماعةً، حيث يكون، ومتى ما يكون، بحاجة إلى سند، إلى عون، إلى ما يوحي باستمرار حياة. ليس سهلاً أن يرى الفردُ نفسَه مخلوقاً صغيراً وسط كون غريب شاسع لا حدود له. ماذا يفعل وإلى أين يمضي؟.
تَعِبَ من الأسئلة فانكفأ إلى نفسه، ومن نفسه، ومعها، يريد ما يمنح أملاً، ما يفرح، ليشعر أنّه ليس وحده، أو أنّه يأمل، أو أن إشارات تأتي.. الهذا ابتدع رسوماً وقصصاً وأساطير؟ وتركها لنا، عطفاً علينا، لتساعدنا على الحيرة والآلام واللا ادري ما أفعل في هذا الكون؟، خسارة المتوقع تعني يأساً. وهو هذا ما يفعله التكرار.
يمكن للفرد أن يُقلّد صوتاً لكي لا يخسر الصوت الأول أبداً، ومثل من ينجب لكي لا تنقرض السلالة. لكنه لن يكون هو الصوت ذاك، ولن يكون ذاك الفرد ولا الحال تلك ولا حقيقة ما كان. أما التكرار والنسخ، فهذان محاولتان ممن يعجز عن استرداد ما كان. ومحاولتنان فقيرتان عن الاتيان بجديد بديل، وهذان للأسف، بداية التزوير. نحن نأتي بشبيه، بمماثل آيل للانطفاء. وهذه الظاهرة ستواصل تزويرها «المُبَيَّت» لما قيل او لما أُبدِع، او لما صنعه ذكاء خاص ولحظة انتباهٍ خارقة عبرت في الزمان. فما لعديد الأصوات التي غمرت الأدب، تواصل ما ليس حقيقياً؟ غش الباعة لا يصنع مجداً. هل هي هجمة تزوير على حقائق العالم وفنونه، فلا تركوا أفكاراً ولا قصيداً ولا موسيقى ولا رسوماً كانت ولقاءاتِ ألوان؟ هل نستعين بحسن النوايا ونقول: كانت طرقاً لإبقاء شعلة ما قيل، ما كُتِب، ما صنعته الانطلاقة الأولى؟، لكن حاجتنا، حاجة البشريَّة إلى سند في الوحشة، إلى عون كما قلنا، إلى ما يبعث أملاً ويعِدُ بجديد. الحاجة لصوتٍ حيٍّ في ظلمات الزمن.. عفوكم عفوكم، هذا ليس تسويقاً للزيف، أو التحريف أو سحب النسغ.
هذه محاولة لتقليل العار وللتذكير بما يحتاج له البشر والفناء مستمر.. إنَّ إعادة امتلاك المُفْتَقَد، امتلاك مثيل للخالد وللذي أضاء، ممكنة فقط بابتداع متفوق أو مكمل لا بتزوير الإضاءات الأولى.
حتى الآن لم نجد للتكرار ما يمنحه شرفاً أو قيمة أو عذراً!
وحتى الآن احتاج لأن أعلّقَ لافتة كما لأحذِرَ من سقوط!