الارتجال والعفويَّة في الأداء المسرحي

ثقافة 2023/06/26
...

 د. علاء كريم
يتداول الارتجال كـ «مصطلح» في القراءات والعروض المسرحية، كأنه سياق يتماشى مع انسيابيّة العرض المسرحي، أو هو ابتكارٌ كما يشعر به الممثل ويعمل عليه حتى اصبح واقعاً في أكثر العروض، لكن في حقيقة الأمر هنالك خلط في معنى هذا المصطلح وفي مفهومه، وعلى مستوى فن المسرح عالمياً وعربياً ومحليا.
وقد نكتشف هذا الخلط عبر متابعتنا لبنية العرض، أو من خلال القراءات، أو بوساطة مراقبة بعض التمارين التي تعتمد على الارتجال لكن بشكل معرفي ومهني، وخصوصاً إذا عرفنا أن هناك معاهد مسرحية أجنبية وعربية تعتمد على الارتجال كمنهج تدريبي، وهذا قد يوّلد لدينا مجموعة تساؤلات، هل يعد هذا المنهج حقيقياً؟، وما هي نتائجه عندما تكتمل عملية بناء العرض المسرحي؟، وإلى أي مدى يمكن أن تعطي مساحة هذا المنهج للمخرج والممثل بالارتجال؟.
 عندما يؤدي الممثل دوره، أكيد يكون وفق رؤية متفق عليها مسبقاً مع منظومة العرض المسرحي بشكل عام، رغم أنّه يميل إلى الارتجال أحياناً، ويرى بأنّه جميل رغم خطورته، ولأنّه أيضا لم يهيئ له سابقاً ولم تكن له قيمة جمالية أو معرفية، وهو من ثم غير متوقع أو مرسوم له في الدور، فيأتي بمعنى الخروج على النص، والعفويّة في الأداء المعاصر، وهذه إشكالية يمكن الوقوف عندها وتحديد معالجاتها، حتى وأن تغيّرت الأساليب والمدارس الفنيّة.
من ثم هو مصطلح عمل به الممثل وعبر عنه في العروض المسرحية اليونانية القديمة التي كانت تعتمد على التأليف الجماعي، وأيضا بوساطة الأداء الإيمائي في المسرح الروماني والجوالين، وفي عروض الفرجة الشعبيّة في القرون الوسطى وأوروبا، وأيضا عند أداء الحكواتي الذي وجد في التقاليد الشعبية للبلدان العربية، وعليه يبقى الارتجال في الكوميديا «ديلارتي» مختلف، لأن كان فيها الممثل يقوم بارتجال دوره انطلاقاً من فكرة مهيئة.
ويعد «ستانسلافسكي» أول مخرج أعاد إحياء تقنية الارتجال إلى الخشبة المسرحية، بعد أن استخدمتها الكوميديا «ديلارتي» الإيطالية في القرن السادس عشر الميلادي، ومن أشكال الارتجال عند «ستاسلافسكي»، العيش في الظروف القائمة
فعلا.
وهذا ما يؤكد بأنَّ بداية المسرح كانت عبر الارتجال الذي كان يتسم بالعفوية والتلقائية والاحتفالية الشعبية والظواهر الفردية، ليتحول بعدها إلى الحفظ والتنظيم وهي مراحل تخضع إلى سلطة التأليف والإخراج والأداء والسينوغرافيا، رغم أن النص المسرحي اليوم يؤكد على حفظ الأدوار بشكل دقيق ومنضبط، لكن هناك من يرى بأن الارتجال يمتلك أهمية في الاشتغالات المسرحية المعاصرة، وذلك لأنّه يعتمد على تدريب الممثل وتطوير أدواته، ومن ثم إثارة المتلقي ذهنياً، واستفزازه وجدانياً وحركياً، ليعد خطوة أولى يعمل بها الممثل لبناء شخصيته، وتطوير موهبته الأدائيَّة.
أعتقد بأنَّ سبب الارتجال في الأداء، هو رغبة الممثل بإظهار نفسه على حساب زملائه، وهذا لا يتطابق مع قواعد ومنهجيّة فن المسرح ومفاهيمه الفكرية المتحضرة، ومن ثم هو حيلة يمكن أن تضعف انسيابيَّة العرض المسرحي، وتجعله يخرج عن النسق الحقيقي، الذي قد يتسبّب في تشويه بنية العرض بشكل عام.
فضلاً عن الأداء الذي يبدو عند الممثل وليد اللحظة، وهذا قد يسمح للممثل أن ينوّع في الأدوار الأدائيَّة، معتمداً بذلك على المواقف التي تسترجع صور الذاكرة المرتبطة باللحظة الأدائيَّة الملامسة للهامش الارتجالي، ولتقنية الممثل وتجربته الإنسانيَّة.
وحتى أن وجد الارتجال بشكل عفوي في أزمنة سابقة، نشاهد اليوم ومع وجود المهارات الفلسفيَّة المعنيَّة في الأداء، الفعل التقني المعاصر، والملامس للأفكار الجديدة والأيديولوجيات التي تعد المسرح فضاءً تحريضياً، أو مساحة لإعادة الموروث الشعبي، أو فضاءً تحكمه المبادئ الجماليَّة التي تعمل على مشاركة المتلقي كجزء من العرض، بعيداً عن النص وأيضا بعيداً عن رؤية المخرج المتسيّدة
للعرض.
المهم أصبح العديد من الجمهور يهتموا بالتحولات الجماليّة والمعرفيّة التي تظهر الفعل الإنساني، بعيداً عن المفاهيم التقليديَّة غير الواضحة، وعلى ضوء ما تقدمت به أرى بأن الارتجال دخل إلى بنية العرض المسرحي بنحو خاطئ كـ «مفهوم»، وأيضا العمل به والتشجيع عليه يعد خطأ في ظل عوالم المسرح الحديثة، وأيضا دخول هذا المصطلح إلى المسرح العربي، والعراقي بالخصوص، يعكس المستوى الثقافي لهذه المسارح، وأيضا يبين الفقر المعرفي لمعنى الارتجال الذي هو بمثابة البحث عن الذات بعيداً عما متفق عليه.
 ويسمح بالارتجال في بقية الفنون على ضوء المساحة الموضوعيّة التي يمكن لها رسم شكل الإضافات التي لا تؤثر على العمل الفني، وأيضا يسمح بالارتجال في الكلام، لأنّه يعد فصاحة لا يمتلكها إلا أصحاب البديهيّة القادرة والمتمكنة على صياغة الموضوعة، بلغة متعالية الأفكار وبأسلوب ينمُّ عن جرأة ووعي المرتجل، أما الارتجال في المسرح فهو خطر جداً، لأنّه يُحاكي جمهورا مختلفا بثقافته ومستوى وعيه، وأيضا يستطيع أن يؤول كل ما يطرح إلى معانٍ وأفعال متعددة.