دعد ديب
التكوين البصري المميز للطبيعة الريفية الساحرة بصمة فارقة في أفلام المخرج عبد اللطيف عبد الحميد الذي يعتمد اللوحة التصويرية ركناً أساسياً في غالبية أعماله وخاصة فيلمه الأخير الطريق (2022) العمل الذي حصد ثلاث جوائز في مهرجان قرطاج السينمائي بتونس في دورته الثالثة والثلاثين عام 2022 جائزة الجمهور وأفضل ممثل حاز عليها الفنان "موفق الأحمد" في دور الجد صالح وأفضل سيناريو وحوار حوار "عبد اللطيف عبد الحميد" بالمشاركة مع الشاعر والروائي "عادل محمود" الذي رحل عن عالمنا قبل أن يراه.
في تقليد ومحاكاة لقصة أديسون مخترع المصباح الكهربائي في انتقاده للمنظومة التعليمية التي فصلت الحفيد صالح عن المدرسة لغبائه وإعلانها اليأس من قدرته على التعلم، جاء أسلوب وصبر الجد صالح الذي بنى له غرفة كمدرسة خاصة بالقرية واستقدم له أساتذة خاصين ليقوموا بتدريسه بأسلوب مغاير كان السبب في نجاحه وتفوقه في الثانوية العامة وإيفاده إلى الخارج ليعود حائزًا على شهادة عليا في طب الأعصاب.
الجد الذي أخفى عن الحفيد رسالة المدرسة بفصله طلب منه أن يدون مشاهداته في ما يحصل على الطريق الممتد أمامه وعبر ذلك يعرض مشاهد وعينات من المجتمع الريفي جاءت على شكل موتيفات زركشت العمل مثل المرأة الغاضبة "رباب مرهج" التي تصيح بصراخ عالٍ وتنهر زوجها لأنه باع الأرض من أجل أن يحظى بزوجة جديدة ومشهد آخر الرجل المريض "مأمون الخطيب" الرجل الذي أجريت له عملية بواسير فاشلة جعلته يصدر ريحًا ذات صوت كلما تحرك لذا فهو يرى نفسه بحالة اعتذار دائم لعدم قدرته على ضبط نفسه ونقمة دائمة على الطبيب الذي أجرى له العملية في توجيه الضوء على الفساد القائم في كل شيء يقابله مشهد آخر باذخ الحنان للمرأة "تماضر غانم" التي تأتي للحفيد "غيث ظاهر" بزجاجة حليب من معزتها، الحليب الذي عوض عن حليب أمه التي توفيت عند ولادته ولم يطق الطفل الحياة لدى زوجة الأب، أيضًا عبر الطريق تمر جمهرة من أهل الضيعة الغاضبين والمتحمسين لقتال ما وهم يهددون ويتوعدون ويرجعون خاسرين ومهزومين دائماً وكلما تكرر المشهد تتكرر الهزيمة بخسائر أكبر وباعتقادي أن هذه اللوحة أكثر دلالة رمزية بالفيلم توضح الهزائم المقيمة في المكان نتيجة الجهل والفساد وماعدا ذلك يسيطر الأسلوب التعليمي الواعظ الذي يقارب حد السذاجة على مفاصل العمل.
علاقة الحب الشفيفة التي نشأت بين الولد صالح ورفيقته بالمدرسة "راما الزين" لونت العمل برومانسية حالمة خالطتها خلافات طفولية ترممت بعدما كشف الجد رسالة المدرسة في الحفل الذي أقامه لحفيده العائد.
المشهد الأخير الشاعر الجوال الذي ينطق بالحكمة من خلال ما يردد من أشعار المتنبي والأخطل الصغير وعنترة وكأنه ضمير الجماعة وصوتها الواعي الخفي، وقد خلا الفيلم من المفاجآت والعقد الحادة وطغت الإيجابية على المحاور الأساسية فيه وما تكراره لهذه المشاهد إلا تأكيده على ثباتها رغم مرور الزمن في إشارة أنه ما من تطور يطرأ على العقول ولا تغيير يحصل ما لم تتغير الأساليب المتبعة في
كل شيء.
عبد اللطيف عبد الحميد كنوع من الوفاء أهدى عمله الأخير لزوجته الراحلة وصديقه الذي شاركه بتأليف العمل وهو الذي حفلت جعبته بأفلام عدة (رسائل شفهية 1991، صعود المطر 1994، نسيم الروح 1998، قمران وزيتونة 2001، خارج التغطية 2006، أيام الضجر 2008، الإفطار الأخير2021 ) في موجة اعتبرها النقاد تنتمي لـ "سينما المؤلف" التي نشأت في فرنسا قبل أكثر من سبعة عقود على يد الناقد الفرنسي أليكسندر أستروك، الذي دعا عام 1948 إلى أن تتحول السينما إلى لغة، و الكاميرا إلى قلم، والمخرج إلى مؤلف، هذه الموجة التي ضمت مع عبد اللطيف عبد الحميد كلًا من محمد ملص وأسامة محمد وآخرين لها أسلوب خاص حيث نقل كل منهم مناخات بيئته وطقوسها التي جاء منها والتي يعرفها جيدًا، برزت المدينة لدى محمد ملص في فيلم "أحلام المدينة" 1984 و"قنيطرة" 1974ولدى ريمون بطرس مع مدينته حماة في فيلم "الترحال" 1997 وغسان شميط عن القنيطرة في "شيء ما يحترق" 1993واسامة محمد الذي نقل لهجة ريف الساحل السوري في فيلمه " نجوم النهار " 1988.
فيلم "الطريق" الذي لامس بساطة الحياة الريفية وشفافية الأحاسيس والمشاعر في بزوغها الأول والطبيعة الساحرة في تجلياتها العفوية أعطانا متعة بصرية لافتة وتوقاً لترقب المزيد.