رسول محمّد رسول.. الناقد المفتون بالسرد
عبدالله الميّالي
للباحث والمفكر والناقد والأديب والأكاديمي العراقي الدكتور رسول محمد رسول (1959 – 2022) اشتغالات واهتمامات فكريَّة وفلسفيَّة ونقديَّة وأدبيَّة متنوعة ورصينة تجعله أحد أعلام الفكر والنقد العربي في القرن الواحد والعشرين. فلديه أكثر من ثلاثين كتاباً متنوعاً في الفلسفة، والفكر العربي، والنقد السردي، والرواية. فضلا عن اشتراكه في ستة عشر كتاباً متنوعاً.سنختار خمسة من مؤلفاته المتخصصة في النقد السردي للحديث عنها بإيجاز، لنكتشف من خلالها مدى عشق الناقد للسرد. وإذا كانت إحدى مؤلفاته تحمل عنوان (السرد المفتون بذاته) فمن باب أولى أن نقول عن هذا الناقد (هو الناقد المفتون بالسرد).
1ــ كتاب (الأنوثة الساردة.. قراءات سيميائيَّة في الرواية الخليجيَّة) صدر في عام 2013، عن دار التنوير في بيروت، ويقع في 205 صفحات، بواقع سبعة فصول.
وتناول الناقد رسول محمد رسول في هذا الكتاب دراسة ثلاثة عشر نصاً روائياً لاثنتي عشرة روائية خليجية هنّ: بدرية البشر، وبثينة العيسى، وبشائر محمد، ورجاء عالم، وسمر المقرن، ومريم آل سعد، ومريم مسعود الشِحي، ومنيرة سوار، وميس خالد العثمان، وفاطمة الشيدي، وفاطمة المزروعي، وهدى عواجي.
حيث حاول الناقد في قراءته لنصوص هذه المجموعة النسويَّة، الاقتراب من الهوية الأُنثوية وهي تلج عوالم المتخيّل الروائي سرداً بغية التعبير عن الذات الأُنثوية قدر تعلقها بشتى صنوف وصور العالم الخارجي أو الموضوعي الذي تعيش وتتواصل فيه المرأة الخليجيّة بوصفها أنثى.
ويرى الناقد أن مفهوم (الكتابة الأنثويّة) الذي انتصر له من خلال كتابه هذا، هو بحاجة إلى بناء نظري يرتبط بالكيفيّة التي تندس فيها الهوية الأُنثوية في مفاصل الكتابة السردية، وبناءً على ذلك تحرّك الناقد في فضاء ثلاثة مفاهيم هي: (ذوات المرأة، ومنجم الأُنوثة، ومسارات طاقة الأُنوثة)، وقد وجد الناقد في التوضيح البصري المجدول دليلاً لبيان انطلاق حركة الأُنوثة السّاردة في الكتابة المتخيلة لدى المرأة، أي تحرُّك الأُنوثة في أي كاتبة مبدعة من نواتها الجينوميّة مروراً بالمكان، والزمان، والممثلين، فالحدث، واللغة، وفعل السرد، وصولاً إلى سطح النص وخطابه، ومن ثم إلى تخوم المتلقي أو القارئ الدلالي الفطن.
لقد وجد الناقد في دراسته هذه ما كان يبحث عنه في النصوص السرديَّة النسويَّة، حيث جادت له هذه النصوص بالمخيّلة الأنثوية الخليجية، ووجد في تمثيلاتها الروائية المتخيّلة متسعاً من الوفرة المعطاء التي تُمكن الباحث من مد العلاقة بين المنهج والتطبيق إلى تخوم قرائيّة جديدة، تخوم منتجة تتجاوز المتكرر الممل والمعتاد الباهت صوب المختلف الخلاق.
ويبدو أنّ الناقد قد استعان بالمنهج السيميائي في تحليله للنصوص الروائية مدار الدراسة، لكنّه استعان بعدد من مناهج العلوم الإنسانيّة الأخرى في تحليل الظاهرة الإبداعيّة مثل منهج التحليل النفسي، ومنهج دراسة الشخصية، وغير ذلك من المناهج التحليلية الأخرى التي تدعم تحليل الطبقات السطحية والعميقة في النصوص الإبداعيّة .
أرى أن هذه الدراسة تشكل إضافة نوعية في دراسة الكتابات الأُنثوية المتخيلة ليس الخليجية منها فحسب، بل والعربية أيضاً بغية فتح تحليل النصوص الإبداعية المتخيّلة لمستوى من القراءات الجديدة التي تثري المشهد الإبداعي العربي.
2ــ كتاب (الجسد المتخيّل في السرد الروائي) صدر في عام 2014 من قبل دار الناشر للدراسات والنشر والتوزيع في دمشق وبيروت. ويقع الكتاب في 208 صفحات، وبواقع أربعة فصول.
تناول الناقد في دراسته هذه تمثيلات الجسد في عدد من النصوص الروائية.
ورغم صعوبة الخوض في هذا المضمار لندرة أو غياب الدراسات والبحوث النقديّة التي تناولت هذا الموضوع، إلا الناقد عقد العزم على خوض هذا المعترك، ليسجل له بصمة حضور في ميدان التجريب أو المغامرة.
ويرى الناقد أنّ الرواية لكونها الجنس الأدبي المُصفّى من بين أجناس إبداعيّة أخرى، هي الميدان الأرحب للبحث عن توظيفات أو تمثيلات الجسد فيها.
وبناءً على ذلك استعان الناقد بعدد من الروايات الإماراتية لتناول موضوعة الجسد، وصولاً إلى تثبيت بعض الأفكار المستقرأة من تلك الروايات. واستعان الناقد بالتحليل السيميائي والمقاربة السيميائية، في دراسة الجسد بوصفه علامة، من خلال تتبع (العلامات الجسديَّة) التي جادت بها النصوص الروائية مدار الدراسة. حيث أخذت التحليلات السيميائية مسارها التطبيقي على تلك النصوص على قدر ما تتجلّى فيها تمثيلات الجسد وكما وظفها الروائيون.
ولم يقتصر الناقد في دراسته على تناول الجسد البشري (الذكوري والأُنثوي) فحسب، بل تناول أيضاً جسديات الأشياء من حولنا، التي توجد وتحضر في حياتنا التي نعيش فيها: كجسد المنزل، وجسد المدينة، وجسد الصحراء، وجسد البحر، وجسد المقهى، وجسد الحديقة، وجسد الخيمة.
3ــ كتاب (السرد المفتون بذاته: من الكينونة المحضة إلى الوجود المقروء) صدر في عام 2015، عن دار الثقافة والإعلام في الشارقة، ويقع الكتاب في 348 صفحة، وبواقع خمسة فصول.
في هذا الكاتب يختزل الناقد مصطلحات (ما وراء الرواية، الميتاروائي، رواية النص، رواية المغايرة، ما وراء القصة، ما وراء السرد، الميتاقص، الميتافكشن، الميتاسرد) إلى مصطلح جديد هو (السرد المفتون بذاته) حيث جاء في تعريفه: “وجود إبداعي متخيّل قد تحولت كينونته المحضة أو الأساسية إلى موضوعة حكائية من خلال تمفصلها في مسالك أجناسية جمالية حكائية كالقصص والروايات والمسرحيات، تلك التي تتضمن حكاية تالية أو حكايات داخل حكاية كبرى يدخل فيها معمار الكتابة وأحوال الكاتب، والقارئ، والمقروء، والناقد، والناص أو المؤلف، والناشر والنشر والمنشور، والمخطوطات، والملفات، والرسائل، والصور الفوتوغرافية، واللوحات التشكيلية، كفواعل وعوامل مسرودة في عمل إبداعي متخيّل ممهور بعنوان مركزي هو عنوان قصة أو رواية أو مسرحية ما”.
ونرى من خلال هذا التعريف أن الناقد لم يبتعد عما شرحه غيره من النقاد حول (الميتا سرد) وأخواته.
وما جاء به الناقد د. رسول هو تحصيل حاصل. غير أن الناقد هنا يرى أن مصطلحه هذا (السرد المفتون بذاته) هو الأكثر شمولاً لفضاء نزعة الكتابة السرديَّة.
وتناول الناقد في كتابه عدداً من الروايات العربية لتطبيق مصطلحه الجديد. وجاء الكتاب النقدي هذا ليشكل محاولة قرائيَّة تطرح نفسها كمساهمة في تعزيز البناء النظري والقرائي، تماشياً مع تحولات الكتابة السردية العربية الآخذة بالنمو والاتساع منذ مطلع القرن الحادي والعشرين.
4ــ كتاب (تمثيلات الآخر في الرواية الإماراتية.. قراءة في المتخيّل الإبداعي) الصادر في عام 2016 ويقع في 110 صفحات.
حاول رسول في كتابه هذا سد النقص في المكتبة الأدبية الإماراتية مقابل مثيلاتها العربية الأخرى، حيث يرى أن النصوص الروائية التي تناولت إشكالية الآخر في تمثيلها الإبداعي لاقت اهتماماً نقدياً خلال العقود الماضية، بينما لم تكن النصوص الروائية الإماراتية تحظى بالاهتمام ذاته، لا عربياً ولا خليجياً ولا إماراتياً حتى سوى في الفترة الأخيرة، ليأتي هذا الكتاب المتخصص كبادئة ريادية منظمة منهجياً تطرق أبواب هذه الإشكالية في فضاء الرواية الإماراتية.
على أن هذه الدراسة لم تدرس كل النصوص الروائية الإماراتية التي ظهرت منذ رواية (شاهندة) لراشد عبد الله عام 1971 حتى آخر نص روائي إماراتي، رغم اعتقاد الناقد أن كل كتابة سردية تستبطن في ذاتها وكينونتها رؤية للذات والآخر ما دامت الرواية لا تستغني عن شخوص متعددي الوظائف والأدوار والمهمات والمستويات. ولكن كان اصطفاء الناقد مركّزاً على النصوص الروائية الإماراتية التي بدا فيها تمثيل الآخر فيها واضحاً وجلياً ومقصوداً أحياناً من جانب مؤلف النص وخطابه. حيث شملت الدراسة سبع روايات فقط هي: (بين طرقات باريس) لفاطمة الحامدي، و(الغرفة 357) لعلي أبو الريش، و(سيح المهب) لناصر جبران، و(ريحانة) لميسون صقر، و(حلم كزرقة البحر) لأمنيات سالم، و(ملائكة وشياطين) لباسمة يونس، ورواية (شاهندة) لراشد عبد الله.
وإذا كان عُمر الرواية الإماراتية يمتد لخمسة عقود خلت، فإن اصطفاء الناقد لهذه الباقة من النُصوص الروائية قد راعى تطور الوعي بالآخر إبداعياً، وتطوّر تمثيله على المنوال ذاته، وهو ما يعكس تطوّر تمثيل الآخر على الأصعدة المجتمعية والنفسية والاقتصادية والسياسية والواقعة في صورها المنظورة؛ حيث يرى الناقد أن “الخطاب الإبداعي مهما تعالى على الواقع، ونأى بعيداً عنه، يظل يتنفس من رئة الواقع في حراكه اليومي المعتاد لينهل منه تمثيلاً إبداعياً
وجمالياً”
وقد تناول الناقد طبيعة وخارطة (تمثيل الآخر في المجتمع الإماراتي) كما هو في تركيبة حراكه المعرفي والفكري والنفسي والمجتمعي اليومي ذي الطبيعة المعقدة والمتشابكة. ومن ثم تناول عامل ومسارات وآليات تمثيل الآخر في الإبداع الروائي، لينتقل بعدئذٍ إلى دراسة تمثيل الآخر في بعض المتون الروائية المدروسة في هذا الكتاب سعياً منه لرسم ملامح هوية المتخيّل.
أما على صعيد المنهج (Method) الذي اشتغل به في فصول هذا الكتاب، فهو المنهج التحليلي النقدي، على أن (النقد) هنا لا يعني التقييم، ولا هو عملية إصدار حكم قيمة على تجربة ما من التجارب الروائية التي نظر فيها الناقد، إنما النقد كما يراه هو “الفتح المنظم لإمكان المعنى، ولمسارات الدلالة فيه، وضمن علاقة ليست فقط ذهنية أو فكرية أو جمالية، بل أيضاً واقعية ومجتمعية، ذلك أن اليقين لم يعد متراصاً في معنى أحادي أو واحدي، كما أن كل شيء سائر إلى التداخل والاشتباك والتكامل في معرفة الإنسان والوجود والعالم”.
5ــ كتاب (عطر الكتابة السردية.. قراءة في المتخيّل الإبداعي العربي) الصادر في عام 2018، ويقع في 312 صفحة.
تضمن هذا الكتاب قراءات جمالية في اثنين وثلاثين رواية ومجموعة قصصية لكُتّاب عرب من العراق ومصر والمغرب وسوريا واليمن والخليج العربي، وهي مجموعات صدرت خلال السنوات الماضية.
ويرى الناقد في كتابه النقدي هذا أن الكتابة الإبداعية المتخيلة، لا تنتظر مجرد معنى يُريد الكاتب إيصاله للقارئ، بل على القارئ أن يتبين ما يضوع به النص السردي من أريج دلالي عاطر؛ فكل كتابة تضوع شذى هي كتابة تحمل شعريتها الإبداعية كمرسل يتلألأ مجداً، شعريتها التي هي مصيرها ومآلها وخاصية وجودها الأصيل ككتابة إبداعيَّة إنسانيَّة.
ويقصد الناقد بالنص الإبداعي “جُملة النصوص السردية القصصية والروائية المتخيلة”.
وبناءً على ذلك فقد تناول بالقراءة والتحليل جملة من النصوص السردية الإماراتية والخليجية والعربية ليكون القارئ العربي المتابع للشأن الجمالي السردي على بينة من أمره، لا سيما أن معول الناقد القرائي وهو يصب جهده على قراءة النصوص ومتابعة انشغالاتها الجمالية سيبقى مُهتماً بمعطيات خطاب كل نص؛ وبما تريد قوله الكتابة الإبداعيّة من خلال الكاتب؛ فلكل نص إبداعي خطابه الذي له، ولكُل نص جمالي عطره الدلالي، ولكل نص إبداعي موسيقاه، ولكل نص مراميه وغاياته وأسراره وعتباته التي تتطلب من “القارئ/ الناقد” التواصل معها بذائقة قرائية حرة ترتقي إلى مستويات الأداء الجمالي في أي نصٍ من النصوص
الإبداعية المقروءة.