الإخبار وتأويل ما يحصل

ثقافة 2023/07/03
...

 ريسان الخزعلي


(1)

منذُ أن مسكَ الشاعر وديع شامخ عصا الشعر في التسعينيات، لوّح بها (نثراً) ولم يتركها أن تسقط إلا على بساطه النثري وجها وقفا، ولم يعد هذا البساط غير ميراث لا يرى فيه حاجة لأن يورثه إلى غيره، إنّها وصيّة الحياة المستمرة شعراً. هكذا يطلب منّا أن نؤول توصيفه (لا وارثَ لي):

هكذا

أستدرجُ الشعرَ حفلة عارية،

ندخلها بأقنعة النوايا،

 هو يرقصُ وأنا أتنفّسهُ..،

إذ لا وارثَ لي...

ورغم أنّهُ يصف نفسه بالشاعر (المتواضع جداً) في قصيدة (يوميّات شاعر متواضع جداً) وهي القصيدة الثانية التي جاءت بعد قصيدة الاستهلال (فخٌّ أوّل) والتي يمكن أن نتحسس منها لعبة الفخاخ، إذ لم يعُد هنالك تواضع، بل هنالك التسامي الأعلى والإظهار العلني لباطنيَّة عقليَّة لم تعرف من المباهج سوى ما استترَ منها في تنكّريّةٍ خادعة، ألا وهيَ تنكّرية (أقنعة النوايا):

أنا شاعر خجول جداً

لم أجرؤ على رمي الصبي «رامبو» بالبيض والطماطم،

وهو في طريقه إلى أفريقيا، خالٍ من جمرة الشعر

ربما شاركتُ في تحفيز «نيتشه» على تشييع الآلهه.

كنتُ أتمنّى رؤية «سقراط» المسكين في حضرةِ

زوجته المارقة. أنا شاعرٌ حالم، أتمنى لا أكون

بدر شاكر السيّاب ولا سعدي يوسف، ولا أرتدي

خيبات مضاعفة على قوامي. أنا شاعرٌ وسيم..

ويتكرر صوت (الأنا) بطريقة خارجة عن الغنائية، خارجة عن توصيف التواضع، ويبدو أنَّ أقنعة النوايا أصبحت مهيمناً باطنياً تتعارض فيه الدلالات (أنا شاعر خجول جداً، أنا شاعر حالم، أنا شاعر أمير، أنا قوس قزح، أنا شاعر الشك، أنا شاعر وقح، أنا شاعر أقرأ، أنا شاعر أحبُّ المدن، أنا شاعر أعني السؤال.... إلخ).

إنَّ التواضع كان ايهاماً، لأنَّ البوح هذا يعكس صوتاً داخلياً ضاجّاً يُظهر نرجسيَّةً كامنة في اللاوعي تُحيل المعنى إلى جنازة:

أنا شاعر أعني السؤال بلا عصا، طفل يكبر بي

أنا شاعر متواضع جداً، سوف أخرجُ مُشيّعاً جنازة المعنى..

(2)

في الإنصات الفني، لا بدَّ من القول، إنَّ الشاعر مُولّد جُملاً ذهنيَّة متدافعة، جُمل إخبارية – سواء كانت اسميّة أو فعليّة - على الأعم لا تتشاغل بما هو حسّي. تتراكم هذه الجُمل لتكوّن نصوصاً نثريَّة تُشير إلى ما يحصل في تعارضات الوجود عقليّاً وكأنَّ الشاعر مُداهَم بصيحة العقل غير

المرئيّة... :

خاتمة الليل لي، أحزاني باذخة، المطر يفضح أسرار الغيوم، اليوم قررتُ أن أزور قبري، الكراسي مصقولة بعناية كافية، الصيف صيف الجنوب، شهريار أدمن الانصات، يحتضن القاف لرقصة الحرب، يزحف راعفاً، يُراقص الألف... إلخ.

إنَّ هذا الإخبار يوحي لنا بأن الشاعر يُريد أن يصحو الآخر على فجيعة العقل الخفيّة، لأنّ ظاهر الوجود قد لفحهُ الضباب واستتر بالعتمة ولا كاشفَ لهُ إلا الوعي.

وفي الإنصات الفني أيضاً، تغيب التجربة الحياتية من نصوص الشاعر عدا قصيدة (أنفض عن أبي التراب ولا أهِيلَهُ) رغم أنّه يلتقط الكثير من المشهديات اليومية ويجعل منها نصوصاً ولكن بتأويل عقلي/ ذهني. وما أعنيه بالتجربة الحياتيّة، هو التّماس الحيّ مع وقائعَ وصبواتٍ، وانشغالاتٍ تحتمل الخسارات كثيراً، يواجهها الشاعر

يوميّاً. 

وهنا يبدو أنَّ للمكان الأوّل والسماء الأُولى فعلاً روحيّاً وجسديّاً، يفتقدهُ الشاعر في المكان الغريب، ووديع شامخ/ تطامن في/ مع المنفى منذُ ربعِ قرن، ولم يبقَ سوى التخاطر عن بُعد كما هو حاصل مع غيره من شعراء المكان الغريب في

المنافي. 

لكنّه أجاد التخاطر برواية (العودة إلى البيت). ومثل هذا التخاطر ذي التجربة الواقعية الحسيّة حصل في قصيدة (أنفض عن أبي التراب وأُهِيلَهُ) المكتوبة بمدركات الطفولة والصبا:

أبي المُعلّق على حائطي بلا عناية ولا أكاليل

يعلو قوامه الصمت، ويُرجع الصدى ذكريات..

جاء الغراب على دراجة هوائية ليقتلع قلبي الصغير

«مات أبي.. مات.. مات»

كيف يموت أبي وهو شامخ شامخ؟

ضربة قاضية ترنّحتُ بها عمراً..

وفي المفتتح الآخر، إنَّ تجربة الشاعر وديع شامخ التي نمت (هنا) وعلا تأصيلها في المنفى، تجربة ملكت وتملك خطّها البياني الذي يتصاعد بتوازياتٍ تقول: تقدّم أيها الشاعر وامنح الوجود بُعداً عقليّاً، وإن انطباع القراءة أو القراءات، هو الآخر لا وارثَ لهُ.