عذراً.. أنا أتعلَّم القراءة

ثقافة 2023/07/03
...

 ياسين طه حافظ

نعم، توجد ثقافة عامة ويوجد تخصص. هذا معلوم. ولكننا نفكر بضرورة تجديد الثقافة العامة وإغنائها، وبضرورة أن يجدد المتخصص مصادره ويضيف لما عنده جديداً. في الثقافة العامة نتخلص من أخطاء عالقة ورثناها والمتخصص يفقد سموه إذا ظل في حدود ما عرف يوماً وما استنتج. الثقافة، بحاليها، تتحرك بحركة الحياة وتتجدد بتجددها وتتسع كلما اتسعت. هذه سطور ممهدة لما انتبهت اليه، لا لما عند الآخرين، ولكن لما فيَّ أنا قبل أن أشير لهم. نحن ولدنا ونشأنا في بلدٍ كان تابعاً للدولة العثمانية.. لذلك نحن نعرف تاريخها ونعرف ما كانت عليه الحياة في تلك السنين، وفي عمر الدولة العثمانية الذي قارب او جاوز الستة قرون.

ما فاجأني في قراءاتي الجديدة عنها. وأننا عموماً لا نعرف معرفة حقيقية ما كانت عليه الدولة، نحن نردد ما قيل وما كتب عنها لنقرأه. وبما قالوه وما كتبوه حمّلوها ما لم يكن فيها. وإلى جانب ما فيها من عيوب، ضخّموا واضافوا. ماكنة صنع العيوب والاخبار المثيرة والشنيعة بدأت كثيرةً تتسع حينما بدأ الطمع بها. قليل منه كان صحيحاً وكثير كان ظلماً. فلم تكن الدولة العثمانية بلا رأي في السياسة الدولية، ولم تكن بلا دراية إدارية ولم تكن تجهل التقدم العلمي والمكننة في العالم، وكانت تدرك جيداً ضرورة التقدم أكثر والتوسع أكثر فيهما. 

كانت على تواصل بالجديد ولكن بحدود. الروح العام وهو روح سلفي، صلاته أوسع مع القَدَر والغيب. وأصحاب النزوع الحديث في السلطنة أو في القصر يقدرون القوة المناهضة ويتحاشون الصِدام بها. والدولة غير مطمئنة من اشارات التهديد الخارجية. كما الرؤية غير كاملة للحداثة لكنها ليست قديمة بالجملة ولا معدومة تماماً. الداخل كان معرقلاً للتقدم، وهذه نقطة أريد التأكيد عليها فيما أذكره من أمثلة. للعلم، حين انتشرت الكوليرا. أو الطاعون، في الحالين استقدموا واستشاروا خبراء من معهد باستور وخارج القدرية والمكتوب. كانت لهم محاجر للمرضى وكانوا يحرقون تركات المتوفين ثياباً وأغراضَ صعبة التطهير.. لكن الدولة لم تكن قادرة على مواجهة أفكار العامة ومعتقداتهم الدينيّة ونفوذ الكَذَبَة والمشعوذين. ولهذا جانب ايجابي هو احترام إيمان الناس لكن هذه حسنة ذات حدّين. ايضاً هنالك المؤلِّبون على الدولة والمحرّضون. اختلط الخير بالشر والشر بالخير وكل له طمع، وكل له غايته. بعضٌ دعاةُ تحرر، بعض ينطقون بما يراد منهم وبعض طامعون لأنفسهم بشيءٍ مما سيأتي!.

ولم يكن الجيش في الدولة العثمانية تجمعاً عشوائياً كما علّمونا. كانت هناك مدارس عسكرية، كليات بمفهوم اليوم، تخرّج ضباطاً. درس في هذه وتخرج فيها قادة سياسيون في البلدان التابعة، قبل استقلال هذه البلدان وبعده.

من ناحية ثانية لم يكن الداخل العثماني بريئاً. فالجماعات الاسلامية، الدراويش والصوفية بطرائقهم والمتفيهقون ومؤمنو الديانات الأخرى، خليط متحاسد إن لم يكن متناحراً. جماعات كبيرة بهذا النفوذ الشعبي (وبتلك الاطماع) يريدون الهيبة والجاه باسم الاسلام الحنيف. فوضى داخلية محكومة السطح. بأزائها مطامع أجنبيَّة، تنتظر السيطرة والنيل فضلا عن أنّها كارهة لدين تراه قوة كبيرة ضدها. بدأ العداء يتحرك باحتلال الجزر، قبرص أولاً ثم منغر وتلك القريبة بعد من اسطنبول والبوسفور، البوسفور هذا هو الذي توقفت فيه الباخرة الحربية الانجليزية وقبالة قصر السلطان عبد الحميد، لتقول له: أيها السلطان، لك ثلاثة أيام لتغادر! لملم ما تحتاج له وما شئت مما تملك! وغادرَ كما أُمِرَ..أطلت في سرد هذا المشهد وما سبقه. 

وهو مشهد مؤلم مؤسف. دولة عظيمة مترامية الأطراف تآكلت بعمل خفي، وخُرِّب داخلها ففرغت من قوتها الداخلية لترى نفسها عاجزة لا تستطيع ردّاً ولا دفاعاً مجيداً. السقوط لم يكن من الداخل حسب، السقوط كان نتاج عمل ناعم طويل وجَدَ عونا من ارتباك داخلي وفساد عسكر وولاة وأطماع فِرق وفئات.. لم تكن الكتب صادقة معنا، السبب أنّها نتاج عداء قديم وولاءات... نحتاج جمعَ شهودِ عدل لكمال الاحاطة بالتفاصيل وبحقيقة ما كان، ناساً ومستويات ثقافة واخلاقيات حكْم ومواطنة..كان لا بدَّ للدولة العثمانية من أن تسقط، لكن ما كان للقوميات والشعوب التابعة لها أن تُشترى او تتواطأ فتكون نتائج السعي لتحررها سقوطاً فاجعاً تحت سيطرات وأطماع ومشاريع نهب. ما آلت إليه أشنع مما كان. كان ممكناً في حال كتلك أن تكون تمردات أو ثورات وطنية وأن تتنامى لتحقق شرف استقلالها، لا لتسقط بعد تواطؤاتها وليس سوى حديث بائس عن الحرية.. خُدِعوا بالوعود، تقول كتب للعامة والحقائق واضحة ومتفق عليها للنخب!لكن لماذا عن الدولة العثمانيَّة الآن؟ حسناً سأكون واضحاً أكثر: قبل أيام وقع في يدي كتاب، طبعته السادسة سنة 1965. الكتاب هو «تطور الأمم الأوروبيَّة 

“The Development of the Europeans Nations”

1870-1914

(j.Holland Rose) 

في الكتاب فصل عن غزو السودان، قرأته قبل غيره! واحدة من معاركهم مع الوطنيين اسمها معركة الدراويش. هذا مفتاح للكثير مما أبحث عنه. الأصول الدينيّة، المذاهب، الصوفيَّة وفرقها، المعتقدات وأنواعها. عرفتُ الآن لماذا الوجهاء في السودان، لماذا القادة، الشيوخ، يرتدون عمائم وثياباً بيضاً، هي ثقافة شعب وثقافة عامة. والخلافات بينهم غير مسلحة ولكنها (خفية – واضحة).. والداخل مرتبك ومعوز وقلق. وثمة مراقبة دقيقة من الخارج لما يجري! أول الخطوات التخلّص من جيش السودان بطرفيه الأصولي و “دفاعه الداعم”. 

سينتهي السلاح، وستخرب مؤسسات ومبانٍ وستبقى آثار القتال والكراهات، وحتى تتحق إرادات، حتى يأتي أمر بأن كفى، انتهى كل شيء وربما لكم ثلاثة أيام!.

لكن لماذا أنا أسرد أمثلة متباعدة؟ ماذا أريد؟ أريد أن أقول بأن واقع الحال غير الذي يُكتب أو يقال وأن الحقائق، أن الجذور، تبقى مقفلاً عليها حتى يأتي ما ينبّه فيثيرها. هل فكرنا بالتجربة العراقية من 1958 حتى اليوم وكل تلك التحولات وما ومن وراءها، والناس بحماسات أو بغضب يدفعون من أعمارهم ودمائهم وسلامهم اليومي، أثمان ما يمضي وما يجيء، والحقائق غير ما يقولون والأسباب، وليس إلا كلام بغير هدى وصنوف تفاسير غير التي يعتمدونها. وبعد كل حال تلوذ الحماسة بائسة وتسقط ميتة، بالرغم من كل قوتها، الآمال.. هلا انتظرتم ما تفصح عنه الأراشيف البعيدة؟ سادتي أنا أربكتكم معي. ولا أدري أي الصحيح من الأسباب. أقرُّ لكم بأخطائي، فأنا آخر عمري بدأت أرى، وأنا الآن يا سادتي أتعلّم القراءة!