من شرفة ألبير كامو
علي حبيب
لم يكن البير كامو، فيلسوفا للعبث كما هو شائع للأغلبية، هذه الصفة الملاصقة لكامو حتماً لا تتسم بالدقة، إنه اكتشف العبث الذي يمكن ان يلاقي الإنسان وهو يترجّل في أحد الشوارع، أو على أحد الأبواب الدوارة فيصدمه. بسبب التكرار ورتابة الحياة «النهوض، الباص، اربع ساعات في الدائرة أو المصنع، وجبة الطعام الباص... ولكن في يوم من الأيام تنشأ -لماذا- ويبدأ كل شيء من ذلك الضجر بالاصطباغ بالدهشة». اذ تتسم الحياة بالميكانيكية المفرطة، حيث يصبح كل شيء يسير بآليَّة مملة، تلك الكثافة والغرابة في العالم هي اللاجدوى.
تصف (جرمين بري) كامو بأنّه كان ديكارتي العبث، أي أنه يبدأ بالعبث لكن لا ينتهي به. وهذه التسمية السالفة الذكر التي اطلقتها جرمين بري، مستوحاة من روح الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، الذي يبدأ بالشك لكن لا ينتهي اليه. يرى كامو بأن حياة الانسان، أشبه بحياة سيزيف الذي يحمل الصخرة على كتفه وهو يصعد الجبل، بعملية لا نهائية، متكررة، وغير مجدية. هذا الشقاء الذي يلاقي سيزيف هو مشابه لعناء البشريَّة بصورة عامة. لأنَّ ليس هناك عقاب شنيع أكثر من العمل التافه الذي لا أمل فيه.على الرغم من هذا التشبيه المأساوي، إلا أنه لم ينكر المعنى الحقيقي للحياة، ولم يعط أي سبب يبيح للإنسان في الاقدام على الانتحار (الذي هو المشكلة الفلسفية الوحيدة كما يقترح)، وينهي الحياة الوحيدة التي في متناوله. فهو كان يرى بأن جاليليو خيراً فعل حين اختار حياته على إثبات فكرته، إذ يقول « لم أَرَ أحداً مات من أجل التفكير في الكينونة». لماذا يموت إنسان ما بسبب فكرة؟ حتى وإن كانت تلك الفكرة صائبة.وبالرغم من يقينيَّة العلم والتطور، إلّا أنّه لم يشفِ الفضول المعرفي للإنسان بعد، أو يعاضده في فهم هذا العالم، إذ يقول في كتابه الرئيسي (أسطورة سيزيف) إنَّ «العلم الذي كان سيعلمني كل شيء انتهى إلى فرضية.. أنني ادرك اذا كنت سأقبض على الظواهر وأحصيها بواسطة العلم، فإنّني لا أستطيع، مع كل ذلك، أن أفهم العالم.. غريب عن نفسي وغريب عن العالم».
هنالك الكثير من الدلالات التي تشير الى انتفاء الفهم الواضح للعالم، ويرى كامو بأن الفلاسفة الوجوديين بلا استثناء انتحروا فلسفياً لاقتراحهم خلاصاً، ووجدوا سبباً للأمل - أمل ديني، فهو أراد أن يضع حلاً لمشكلة العبث في حين أنّهم أرادوا الخلاص منه عبر الإيمان. إذ إنّهم (كيركجارد وجيستوف) جعلوا من العبث جسراً يقودهم إلى العالم الآخر، والعقل أمسى ضحية للدين، وهذه القفزة التي يقوم بها الاثنان، هي محاولة منهما للتعالي على العبث، إنَّ الوجوديين بدؤوا يؤلهون هذا الشعور ويطلقون عليه صفات إلهيَّة لا يمكن أن يكتسبها أحد غير العبث.
لم تكن معالجات كامو للأمر مثالية، يطلقها من برج عاجي، بل إنها معالجات بمنتهى الجدية، تبحث عن هدف للإنسان لإسباغ معنى لوجوده، في وسط عالم شحيح المعنى. وكأي فيلسوف وجودي اهتمامه الفرد بمعزل عن اعتباره ذاتاً مفكرة، جاهد لإيجاد معنى يخفف عبء أيام ثقال، تجهد هذا الكائن السيزيفي الذي ضاع صوته بوسط فوضى آلات. إذ يذكر أبيقور بأنّها «فارغة هي حجة الفيلسوف التي لا تخفف أيَّ شقاء بشري».
بالحرية وحدها يحقق الإنسان معنى، ويحقق وجوده الفاعل. فكامو يناقش مشكلة الحرية من جانب ذاتي وليس كمشكلة ميتافيزيقية، إذ يقول إن «معرفة كون الإنسان حراً أو غير حر، لا تهمني، أستطيع فقط أن أجرب حريتي أنا». فالحرية التي يريد أن يجربها هي تجربته الحياتيّة لا الحرية الميتافيزيقية، الحرية التي من خلالها يكون الفرد ينوي تحقيق الأشياء التي تنبع من ذاته وتكون أفعاله متطابقة مع ما يريد، لأنّ الحرية الميتافيزيقية تضعنا في مفارقة وتناقض واضح، فإما ننسب مشكلة الشر إلى الله، أو أن الإنسان حر وهو مسؤول عن كل فعل. فلم يكن مثالياً ينكر الشر، إلا أن الإدانة لا تقع على عاتق الإنسان، والبراءة التي يتحدث عنها، هي الحالة التي يواجه بها الإنسان شرط إدانته، فكل من هايدجر وسارتر وكامو، اعتبروا أن الخطيئة ليست إلا وعي الإنسان بأنه موجود مقطوع عن أي تبرير علوي. وعليه ميّز كامو بين الإنسان وبين باقي الأشياء الأخرى في العالم، والذي يفصل بينهما هو الإدراك والوعي بالذات، لأن الكائن الإنساني هو الكائن الوحيد الذي يعي ذاته، مما يجعله يشعر بغرابة العالم.
فالوجوديون متفقون على أن الإنسان ليست له ماهية محددة ثابتة معطاة له مقدماً، فسارتر مثلاً يرى بأنّ “الإنسان لا يشبه الأشياء المصنوعة”. لإعطاء الذات الإنسانية تفرّدها ووجودها الخاص بين الأشياء. والشعور بالحرية هو شعور ذاتي صرف، ولا يمكن أن يكون مصدرها خارجياً، كالإله مثلاً كما أسلفنا، إذ إن الاعتراف بالحصول على الحرية من قبل كائن أسمى هو فقدان لتفرّد الذات، فيرى كامو بأن “الإنسان يفقد حريته ومسؤوليته الشخصيّة حين يخضع لمذهب أو يدين بدين أو يتقيّد بأيديولوجية معينة”. بمعنى، إن لم يوجد هنالك إله فإنَّ الإنسان مهجور تماماً ومتروك ليضع لنفسه معاييره الخاصة، ويحدد قيمه.
فالوجود عند سارتر وكامو هو وجود منعزل عن الإله. لأن مشكلة حرية الانسان، بالأساس عند كامو هي مشكلة أخلاقية تُعنى بالفعل والسلوك أكثر من عنايتها بالماهية والمصير وأنها بالأساس ليست حرية مطلقة، بل هي ما يخص حرية التفكير فقط، أي اقتصرها على داخل إطار العقل إذ يذكر بأن “الحرية الوحيدة التي أعرفها هي حرية التفكير والفعالية”.فالقيم العامة التي نختارها هي من سيكون لها دورٌ في حكمنا، وكذلك المجتمع وسلطته، وكذلك الآخرون، ابتداءً من سلطة الأبوين وصعوداً إلى الموظف في العمل وإلى الفرد بوصفه فرداً في الدولة كلها تضع علينا معاييرَ وأحكاماً تحد من حريتنا. إنّ الإنسان ليس حراً وليس كل ما يريده يستطيع فعله. بل لعل بعض الأفعال التي نعملها تعطي قدراً من الحرية، بجعلنا نعيش وهماً من الحرية، إلا أن الإنسان يدرك أخيراً هذه الحدود والقيود التي تحيط به. والإنسان العبثي يكون مدركاً لقدر الحرية أو انعدامها بالمعنى الأصح، التي يعيشها فتكون هنا الحرية مرتبطةً بوعي الإنسان، والعبثي مدرك بأنّه لم يكن حراً بالفعل، وعندما يثور الإنسان العادي ويتحول فيما بعد إلى الإنسان العبثي، وهذا التحول المنشود الذي يحرره من القيود، والتي يتحصل عليها فيما بعد هذا الإنسان، هي الحرية الحقيقية الوحيدة، فيكون هذا العبث أو الوعي بالعبث، شرط هذه الحرية، ويكون شرطها الثاني هو الموت. فيكون الموت نهاية الإنسان العبثي، لأنه لا يؤمن بعالم آخر أو حياة غير هذه الحياة.كل هذا لا يبيح لنا مفارقة العالم الوحيد الذي في جعبتنا - او نحن الذين في جعبته- ليس علينا سوى أن نمضي قدماً كما يقول باسكال “لقد أبحرت بنا السفينة، وليس في وسعنا سوى أن نمضي”. هنالك إيلام واضح لذواتنا ومخاض، يصعب عليها السير وسط كل هذه الدلالات التي تشير إلى انتفاء الغائية، هذه النقطة بالذات جعلت من الدين خلاصاً نلوذ به للفرار من فكرة التلاشي في العدم، طبيعتنا وفضولنا المعرفي الذي يريد سبر اغوار الوجود، والذي من الصعب فهم نهايته، أو نهايتنا على الأحرى، جعل من الأمل العلوي أملنا الوحيد.