محمد حاذور
إلى القارئة سحر بهاء، السيدة التي أجهلها
درجتُ على عادة المشي لمسافات طويلة، منذ زمن بعيد، تقريباً خمسة عشر سنة، مع الرفيق مثنى فاضل. كُنّا وما زلنا، نطوف الشوارع والبساتين ونصل تخوم المدينة، بالرغم من صغر المدينة. نتحدث عن الأدب وما حوله والأغاني وألحانها والسياسة ومشكلاتها والمجتمع وظواهره، وعن الكتب وقراءتها، وعن كرة القدم ويكون مشوار المشي والحديث يفتقدان للملح من دون الحديث عن النساء.
ممارسة هذه العادة، قد تنقطع لأشهر أو أكثر، لكننا نحتفظ بوعد الرشاقة والخفة في الخطوة والحديث والتفكر والرفقة الصادقة.
في وقت مغيب الشمس، قبل أكثر من شهرين، كنا في طريق العودة نحو منزلينا، نسير على الشارع الموازي للجادة الرابطة بين المدن - الطريق العام. تحدثت حينها عن حصولي على كتاب كثير الأهمية بالنسبة لي، وهو «الموسيقيون والمغنون خلال الفترة المظلمة» منذ القرن السابع- زمن سقوط الحاضرة العباسية- أي القرن الثالث العشر بالتقويم الميلادي، حتى القرن الثالث عشر الهجري- في القرن العشرين الماضي، ومؤلفه الحاج هاشم محمد الرجب: مطرب من أعمدة المقام العراقي.
تعلّم المقام من رشيد القندرجي وعباس الشيخلي وجميل البغدادي وسلمان الموصلي. سجل بعض العروض للإذاعة العراقية حتى أواخر الستينات. تعلّم العزف على السنطور من العازف اليهودي (يوسف حوجي باتاو) قبل ترحيل العازفين اليهود من العراق عام 1951. كان الرجب مؤيدًا صريحًا لمدرسة المقام التقليدية، كما كتب أول كتاب موسيقي عن المقام العراقي وحصل على لقب «أول خبير مقام عراقي في القرن العشرين». واستطردت بشأن عنايتي بموضوعة الطرب ومجالسها وذكرت بعض كتبي بهذا الخصوص، «قِيَان بغداد في العصر العباسي والعثماني الأخير» للعلامة «عبد الكريم العلاف وأيضاً «القيان والغناء في العصر الجاهلي» للأديب، مؤسس الجامعة الأردنية، ناصر الدين الأسد.
في تلك اللحظة، لحظة العودة نحو الدار، تطرق مثنى بحديثه عن واحد من القصاصين العراقيين، مستفسراً، فيما إذا كنت قد سمعت به أو قرأت له، . أجبته، بعد محاولة عصر الذاكرة، أن الاسم أظن قد سمعت به. وأضاف أن السيدة العراقية الروائية ميسلون هادي قد أشارت إليه ذات مرة. ينتمي القاص المعني، غازي العبادي، إلى الخط الثاني من تاريخ القصة العراقية، أي بعد عبد الملك نوري ومحمود عبد الوهاب وفؤاد التكرلي وغيرهم. يمكن عده من جيل القاص محمد خضير.
منذ سنوات قريبة، اعتدت اقتناء الكتب المستعملة- مكتبات من رحلوا ومن ماتوا ومن هُجَّروا وغيرها من المكتبات التي تصبح، بعد مشيخ وهرم صاحبها، عبئاً على المكان. وأيضا الكتب المخزونة من الطبعات القديمة نسبياً. قبل أكثر من شهر، عُرضت للبيع مجموعة قصصية بعنوان «المطاف» للقاص غازي العبادي. قمت بحجزها من دون أن أخبر رفيقي بذلك. تركتها مفاجأة يحين وقتها. يوم أمس الذي صادف الخميس بتاريخ 22/6/2023 وصلني مطاف العبادي مع كتب أخرى لطراد الكبيسي وأجزاء من موسوعة المصطلح النقدي والتي تفضّل بترجمتها، المترجم العلامة عبد الواحد لؤلؤة.
نالت قصص العبادي أهميتها كيما أتحدث عنها، لأني وجدت ورقة كاملة مسفوطة إلى قسمين وموضوعة بالقرب من منتصف الكتاب.
في اللحظة التي لامست أصابعي تلك الورقة، أضيئت ذاكرة عتماء من سنوات دراستي في المرحلة الابتدائية. كنا، في التسعينات وسنوات الألفية الثانية، قبل سقوط بغداد الثاني على يد المعسكر الغربي بقيادة أمريكا، نتسلّم من المدرسة دفاتر وأقلاماً ومبراة وممحاة. كانت الدفاتر كالحة وخشنة، مثل خشونة العقد التسعيني الذي فتّت النسيج بكل ما للتفتيت من معنى.
المجموعة والورقة المسفوطة بمنتصفها، تعودان إلى فتاة تدعى «سحر بهاء». دوّنت عليها أسماء القصص التي أكملت قراءتها مع اسمها بالطبع تسبقه وصف «القارئة». قد تكون السيدة سحر على قيد الحياة وتنعم بأولاد وأحفاد ولا تذكر غازي ولا مطافه ولا ورقتها الخشنة المقتلعة من دفاتر العقد الخشن. وربما غادرت، وعانت أسرتها من خشونة المكتبة فصارت في مكتبات شارع الرشيد لكي تصلني من مكتبتها مجموعة قصصيَّة ومن دفترها
ورقة خشنة.