عدنان حسين أحمد
يميل المخرج الكازاخستاني المعروف دارزان أوميرباييف إلى الاعتقاد بأن "السينما فنٌ حضري" وأن المدينة عنصر أساسي في الغالبية العظمى من أفلامها ولكن هذا لا يمنعها من أن تعرّج على القرى والأرياف لتتبّع حركة أبطالها الرئيسين أو المؤازرين أو الهاربين الذين يلوذون بالمناطق النائية.
يشتمل هذا الفيلم الدرامي على خمس شخصيات رئيسة لا نعرف أسماءها وشخصيات ثانوية تتحرك بين الصف وكانتين المدرسة التي يدرس فيها الشاب الذي تتمحور حوله القصة السينمائية التي كتبها المخرج بنفسه.
كما يبدو الهيكل المعماري للفيلم وكأنه قائم على لوحات بصرية منفصلة لكنها في حقيقة الأمر متصلة ومتشابكة مع بعضها البعض.
فالطالب الشاب الذي جسّد دوره "إلياس شاكيروف" نراه في غرفة نومه يتصفح صورًا لفتيات جميلات على شاشة هاتفه النقال بينما تطلب منه والدته أن ينام لكي يستيقظ صباح الغد ويذهب إلى المدرسة بمترو الأنفاق.
لم يركز الطالب على ما يقوله الأستاذ وإنما يتطلّع إلى عمارة لم يكتمل بناؤها بعد.
وفي فرصة الاستراحة ينتبه إلى طالب يتحدث مع زميلته بحميميّة وهما في الطريق إلى الكانتين.
يستعين الشاب بلغة الجسد والبانتومايم ولم يتحدث طوال مدة الفيلم التي بلغت 30 دقيقة إلاّ بكلمات مُقتضبة حينما اشترى تذكرة الدخول من الكاشيرة، وحينما طلب من الجنود الثلاثة أن يحضروا الفيلم بتذاكر دفع ثمنها بنفسه.
وكانت عيناه وملامح وجهه تعبّران بدقة عمّا يريده أو يتوق إليه.
وبما أن الثيمة الرئيسة تتعلّق بالطلبة والأجواء المدرسية فقد استدعى المخرج محاورة رجل كبير في السن مع أحد زملاء الدراسة وسأله إن كان يتذكّر معلم الأدب الكازاخي الذي كان في سن الأربعين وزوجته التي كانت تدرّس الموسيقى؟
فقد رآه يأخذ حفيده إلى المدرسة حيث يعيش مع ابنته في مدينة "ألماتي" لبعض الوقت.
وقد كبر جدًا الآن وقاربَ الثمانين. ثم يسأله إن كان قد رأى المعلمين الآخرين الذين كانوا يدرّسون في قريتهم وهل لا يزالون على قيد الحياة؟ وتبدو هذه الإشارة إلى القرية والمدينة ضرورية جدًا، لأن ثيمة الفيلم تركِّز على الفوارق الطبقية والثقافية بين الريف والمدينة سواء في كازاخستان أو بلدان العالم المتقدمة.
وفي عربات المترو الأنيقة نرى الأطفال وهم يلعبون بالهواتف النقّالة والألواح الذكية في إشارة إلى أن الكازاخستانيين مترفون ومرفّهون لأن كازاخستان هي أقوى دولة من الناحية الاقتصادية في آسيا الوسطى.
تتضمن ثيمة الفيلم تعالقًا ميتاسرديًا مع لقاء إذاعي يتحدث فيه أحد المختصين عن النظام الرأسمالي المعولم. ثم يلتفت إلى نقطة مهمة جدًا مفادها بأنّ الناس في كازاخستان منقسمون إلى قسمين، فالذين يعيشون في العاصمة آستانا أو المدن الكبرى يتحدثون الروسية، والناس الذين يعيشون في القرى والأرياف يتحدثون الكازاخية، الأمر الذي خلق عقليتين ولغتين مختلفتين، وأنتج سايكولوجيات وأيديولوجيات مختلفة أيضًا. ثم يخلص إلى القول بأنّ الغرب قد انتصر في القرن التاسع عشر لأنه أصبح قوة عظمى هيمنت على العالم برمته تقريبًا.
يدخل الشاب إلى "أرمان كينو سنتر" ويشتري تذكرة دخول إلى السينما لكن البائعة تخبره بإمكانية عرض الفيلم إذا حضر خمسة أشخاص، ثم يأتي رجل عجوز يتوكأ على عُكّازة فيخرج الشاب من المركز ويشاهد ثلاثة جنود ويدعوهم لمشاهدة الفيلم فيوافقون في الحال في إشارة واضحة إلى أن السينمات والمسارح تلفظ أنفاسها الأخيرة. لا نفهم من ثيمة الفيلم المعروض على الشاشة أكثر من رجل يقرأ في مكتبه. أما الجنود الثلاثة فقد جاؤوا ليغطّوا في نوم عميق بعد أن بدأ الفيلم. ويبدو أن الرجل المسنّ قد دفعه الإحساس بالعزلة للمجيء ومع ذلك فقد ظل حتى نهاية الفيلم قبل أن يعود إلى منزله وكأنه يشير للشاب من طرف خفي بأنه سيكون هدفًا للوحدة التي يحتاجها الإبداع، فكلما اقترب من الحقيقة سوف تزداد عزلته، وقد يكون الصرح العظيم مكانًا رائعًا لكنه مهجور، ومَن يمشي في ممراته الفارغة لا يسمع سوى أصداءً لوقع خطواته. يخرج الرجل العجوز ويتبعه الشاب فتتداخل صورتاهما وهو يمشي ويسمع وقع عُكازة الرجل العجوز الذي يتلاشى شيئًا فشيئًا.
فإذا أردت أن تكون فنانًا خلاقًا فما عليك إلاّ أن تتحمل وطأة الوحدة والتقوقع في صدفة الذات المنقطعة للتأمل والتفكير. أنجز أوميرباييف حتى الآن 12 فيلمًا روائيًا ووثائقيًا وقصيرًا أبرزها "القاتل"، "الطريق"، "الطالب"، و "الشاعر" وفاز بالعديد من الجوائز في مهرجانات مرموقة مثل "كان"، "فينيسيا" و "طوكيو".