{بابليون}.. الحبّ بقناع الهجاء

ثقافة 2023/07/03
...

 باسم سليمان


لم يرد صاحب فيلم "La la land "الأوسكار، أن يكون رؤوفًا بهوليوود في فيلمه الجديد "بابليون"(Babylon 2022)، فالتشبيه المباشر لها بمدينة بابل الفاسدة، واضح جدًا. هذه المدينة التي اجتمع أهلها كي يبنوا برجًا ليطّلعوا على أمور السماء، وكاد الأمر أن يتم لهم، ولكان لتاريخ الأرض والسماء حكاية أخرى، لولا فطنة الآلهة بأن بلبلوا ألسنتهم. وقد سبق شازيل في تشبيه هوليوود ببابل، كينيث أنجر في الخمسينيات في كتابه "هوليوود البابلية" الذي أبان فيه تفوق الجانب المظلم على المشرق في مدينة الفن السابع. 

يبدأ الفيلم بحفلة ماجنة تجمع المنتجين مع الممثلين والأغنياء، في أحد قصور لوس أنجلوس في عشرينيات القرن المنصرم، عندما كانت السينما ما زالت صامتة. يكلّف الخادم مانويل توريس (دييغو كالفا) المهووس بأضواء السينما أن يحضر فيلًا إلى الحفل! قد يتبادر إلى الذهن بأنّ الفيل إحدى شطحات المخرج، لكنّ الفيل كان عامل جذب لأنظار المحتفلين المخمورين، حتى يتم في الخلفية تهريب جثة فتاة شبه مقتولة في غرفة أحد الأغنياء المعتوهين. فما أراد شازيل أن يقوله من مشهد الفيل: "لقد فضحت خدعة الـ (أبرا كادبرا السحرية) فلا فيلة أخرى ضمن أحداث الفيلم، سأريكم الفراشات التي تحوّلت إلى جثث، لكن هي من صنعت مجد هوليوود".

يغطي الفيلم حقبة السينما الصامتة ومن ثمّ تحولها إلى ناطقة، وبدايات الركود الاقتصادي في أميركا، وما نتج عن ذلك من استبعاد ممثلين لهم شهرتهم لم يستطيعوا أن يجاروا التحول التقني كجاك كونراد (براد بيت)، الذي صرخ بوجه زوجته الممثلة المسرحية التي كانت تعلمه كيفية التلفّظ برقي حتى يكون مناسبًا للأفلام الناطقة التي بدأ إنتاجها عام 1927، بأنّه عندما كان يُكتب: "ممنوع دخول الكلاب والممثلين" كان يناضل من أجل السينما وجعلها متعة للشعوب البسيطة والآن يستبعد! لم يسمح كونراد للموجة الأخلاقية الجديدة التي اكتسحت هوليوود بموجب (قانون هايز) الذي يمنع تصوير العري والمخدرات بعد مطالبات من أصحاب الفضيلة، الذين علّلوا الركود الاقتصادي بفجور هوليوود، أن تطلق رصاصة الرحمة عليه، لذلك انتحر. كانت الممثلة (كلارا بو) أيقونة الإغراء في العشرينيات، التي استمدت منها شخصية نيلّي لاروي (مارغوت روبي). 

كان لكلارا سيرة حياة بائسة جدًا، فأبوها سكير وأمها مصابة بفصام الشخصية حتى أنها حاولت قطع حنجرة ابنتها، عشقها نويل توريس الذي حاول كثيرًا إنقاذها، لكنّها ورطته مع عصابة اضطر بعدها إلى أن يعود إلى المكسيك لينجو بنفسه من الموت. أمّا عازف الساكسفون، فقد آثر الانسحاب إلى إحدى الحانات على الرغم من كل الأبهة التي منحته إياها هوليوود، ليعزف براحة ضمير تشبه أصداء أصوات الزنوج عندما كانت تصدح من حقول القطن، لكنّه حرّ. إذن، شازيل لا يرغب بتصوير أرض أخرى للأحلام، ليداعب خيال المشاهدين، ولا ليرضي النقّاد، أو الذين يمدحون هوليوود بهيكليتها الصارمة، كالناقد الفرنسي أندريه بازان في مقارنة بين السينما الأوروبية والأميركية بقوله، بأنّ ما يميز هوليوود أنها مؤسّسة منظمة أكثر منها إبداعات أفراد؛ وهذا سرّ عبقريتها واستمرارها. ويرى شازيل بأنّ لهوليوود وجهها المظلم، لكنّ القمر ينير سماء الليل.

 لم يحقّق الفيلم المرجو منه، إذ خسر على صعيد النقّاد والجمهور والإيرادات، فما الغريب في ذلك! أليست هذه هوليوود التي تكلّم المخرج عنها في فيلمه؟. 

  الفيلم على صعيد التصوير والسيناريو والتمثيل فيه الكثير من الجودة والمتعة والتأمّل في هذا الفن، والانتصار لتاريخ الأفراد المغيبين لصالح التاريخ المبهر لهوليوود. فهو يتحدث عن أصواتهم، وذلك عبر إزاحة "فيل الأضواء" الذي يعمي البصائر والأبصار لنعود ونرى الذين محاهم تاريخ هوليوود، أ كانوا نجومًا مشهورين كجاك كونراد نجم السينما الصامتة، أو نيلّي لأروي الفتاة التي تشبه العاهرة التي حملت علم الثورة الفرنسية في لوحة دولاكروا ونسيت أن تحلق شعر إبطيها، أوعازف الساكسفون الخلاسي الذي طلب منه تسويد وجهه أكثر ليلقى قبولًا لدى المشاهدين. والمكسيكي مانويل توريس المتقنّع بجنسية إسبانية حتى لا يزدرى، هبوطًا إلى الكومبارس. كان أحد أخوة وارنر براذرز، هو مطوّر الشريط الصوتي الذي حوّل السينما إلى ناطقة، قد مات في اليوم السابق لافتتاح أول فيلم ناطق للشركة عام 1927.

هذه المفارقات التراجكوميدية كثيرة في هوليوود، هي ما جعلتها ماكينة لا تهدأ وقابلة للحياة إلى الأبد.

لقد صنع شازيل مجده الإخراجي بفيلمين: هما "ضربة السوط"، و"أرض الأحلام". وتقهقره أيضًا بفيلمين: "الرجل الأول"، و"بابليون".  هذه الأفلام جميعها تتكلّم عن أفراد كانوا عبّادًا لأحلامهم، لكنّهم صنعوا التاريخ، كنيل آرمسترونغ الذي وصل إلى القمر في فيلم: "الرجل الأول".  فمثلاً عاد مانويلتوريس إلى لوس أنجلوس بعد زمن طويل، ليجد في انتظاره كلاً من جاك ونيلّي وغيرهم الكثير من الممثلين والكومبارس على الشاشة البيضاء، وهكذا ما إن تصنع هوليوود خلودهم حتى تقتلهم في الواقع.