قصديَّة الاغتراب بالظل

ثقافة 2023/07/04
...

 عادل الصويري

عادةً ما تُنتج مراحل الانتكاس الحضاري حالةً من الاغتراب لدى شعرائها وكُتّابِها الحالمين بعالم أفضل، وحياة حقيقيَّة متحركة غير جامدة، حياة تتآلف فيها الروح والمادة، ويتجاور فيها الشعر مع الفلسفة أو حتى الهرطقة.
وإذا كان اغتراب بعض الشعراء خارجيَّاً كمالك بن الريب وابن زريق البغدادي، مروراً بمحمد مهدي الجواهري ومظفر النواب، فإنَّ الاغتراب المعاصر هو الاغتراب الداخلي. والداخل هنا ليس داخلَ المكان؛ بل هو داخل النفس البشريَّة، وظلال عزلتها المنعكسة على التجربة الشعريَّة للمغترب.  وللاغتراب الداخلي بعدٌ يتمثلُ بالألفة مع التوحّد الذي يسعى فيه المبدع المغترب داخلياً إلى تجاوز الخارج على صعيد اللغة والفكرة؛ بهدف الوصول إلى الذات من منظوره الذي يتجرأ به على السائد، ويعلن من خلاله تمرّده الأمثل، كاشفاً به شخصيته التواقة إلى المغايرة والاختلاف.
في كتاب (وحيدان أنا وظلّي) نلمس هذا الداخل المغترب للشاعر نبيل نعمة الذي سعى بالشعر المنثور إيجاد حياته الشعريَّة الخاصة، بعيداً عن صخب الخارج وتناقضاته. في هذا الكتاب يسعى الشاعر إلى تدوين التوتر الذي يحيط به وبظلِّهِ الذي يأخذ على عاتقه مهمة ترجمة هذا التوتر إلى اغتراب باللغة، وتوحّد مع النص.
ولأنَّ الاغتراب حالة قائمة بذاتها، وغير متشظية، فقد سعى نبيل نعمة لأن تكون وحدته عبارة عن نص واحد مطوّل مقسّم إلى أرقام أخذت دور العناوين الثانويَّة، وكأنَّه أراد التلميح إلى أن العتبات النصيَّة، يمكن لها أن تكون أرقاماً بدل الكلمات، ربما لهذه الأرقام أصوات، علّها تقود إلى بدايةٍ يتطلّعُ إليها، كما قال في عزلته المرقّمة (2): «الصوتُ فانوسُ وحدتي التي تُضيءُ/ لا قسوة تشبه الانتظار، لا عزلةَ تشبه المرايا/ بِكُلِّ هدوءٍ أنسحبُ جانحاً للظل، لفشلٍ آخر/ الفاشلون على شاكلتي يتأمَّلون البدايات».
هذا المقطع هو فرويدي بامتياز، إذ يقول فرويد عن الاغتراب: «شعورُ الانفصام والصراع بين قوى اللا وعي الدفينة في الذات وبين القوى الواعية»، فالشاعر هنا منفصل عن كل شيء، إلّا من صوتٍ يضيءُ له عزلتَهُ وإن كانت قاسية كالانتظار الذي يعيه بكلِّ دواخلِه الدفينة، لكنه مع ذلك يفضّل الانسحاب للظل؛ للاستمتاع بمراياه المعزولة. هي إذن المرايا التي تشعره بالانشطار، وتكون له وطناً آمناً يبتعد به عن حالة التشويه التي تصاحب نمو الإنسان الشبيه بسلحفاة «لا تكترث للزمن»، الذي صار هو الآخرُ مغترباً، وكأنَّه يتعاطف مع شاعرِهِ الموغلِ بالظلِّ والوحدة.
فتارة يكون الزمن مكاناً للتلاشي: «ما أقسى التلاشي في الزمن؟ ما جدوى الغد وأنت في حضورك وغيابك تتكرر؟».
وتارةً أخرى يريد الشاعرَ مباغتته بالتحقير: «لو أقول للأيام التي بالانتظار أن تتوقف/ للأيام التي تجري أن تنسى/ أريد أن أباغت الزمن بهزيمة أختزلُ فيها ضياع العمر/ إلغائي ليوم من الأسبوع/ كم سيكون جميلاً تحقيره على هذا النحو؟».
إنَّ هذا النوع من السخرية واللامبالاة بالزمن، هو قصدية شعرية أكدها نبيل نعمة في نَصِّه المُطَوَّلِ هذا. ورغم أن المرتهن للعزلة، يكون عادةً زاهداً بِكُلِّ شيء؛ إلّا أنَّ الشاعر، يحاول أن يضيف لظلِّهِ أصدقاء من عوالم الطبيعة، ولا أعرفُ إن كان هذا المسعى جيداً أو هو غير ذلك. فهو في حين يرى أن لا فائدة من هذه العوالم، فيقول: «لا جدوى من الكتابةِ عن الأشجارِ من دون الحديث إليها»، وفي حين آخر يختلف عن رؤيته السابقة فيقول: «مثلُ الأشجارِ لي خضرةٌ تُغنيني عن الكلام».
كما أنَّ عزلته هذه بوصفها ثيمة وهوية لكتابه تفقد بعضاً من بريقِها الشاعريِّ، حين يُفلت الشاعر منها ذاهباً إلى عوالم تكون تارة عاطفية لم تستطع اللحاق بوحدة الشاعر كما في المقطع رقم 35، وأخرى صوفية اقتربت على حذر من قصدية الاغتراب بالظل.