مونيكا فلودرنك والمفاهيم الكلاسيكيَّة

ثقافة 2023/07/04
...

 د. نادية هناوي
لمونيكا فلودرنك إضافات نظرية مهمة في ميدان علم السرد ما بعد الكلاسيكي، كما لها وقفات نقديَّة أصيلة جعلتها أحد أقطاب السرديات ما بعد الكلاسيكية جنبا إلى جنب ديفيد هيرمان وجيمس فيلان ورابين وارهول. ويعد كتابها (نحو علم السرد الطبيعي) 1996 بمثابة القدحة التي أورت النار في زناد المدرسة الانجلوامريكية فصار لها هذا المسار الذي بموجبه ارتحلت النظرية السردية من الكلاسيكية ودخلت في مرحلة ما بعد كلاسيكية ذات أبعاد جديدة مغايرة.
ويقوم الملمح العام لهذه المدرسة على فاعلية التشارك الجماعي في عمل مشاريع بحثيَّة كسلسلة تأليفيَّة أو كتاب واحد بأجزاء متعددة أو كتاب جماعي يشترك في تحريره اثنان أو ثلاثة، ولمونيكا فلودرنك في ذلك كله موقع خاص تدلل عليه طبيعة الكشوفات التي تطرحها في أبحاثها التي تغاير المألوف في النظريّات السرديّة الفرنسيّة.
وكان لفلودرنك شأنها شأن ديفيد هيرمان دور مهم في الأخذ بيد كثير من المنظرين الأوروبيين الشباب باتجاه التنظير السردي ما بعد الكلاسيكي، فاشتركت معهم في تأليف كتاب أو أكثر كما أشرفت وقدمت لكتب أنجزها باحثون شباب.
ومن ذلك مثلا اشتراكها مع جان البر في تقديم وتأليف كتاب (علم السرد ما بعد الكلاسيكي: مناهج وتحليلات) 2010 ويقع في قسمين، عنون القسم الأول بـ (إضافات وإعادة تشكيل السرد الكلاسيكي) وحمل القسم الثاني عنوان (تداخل التخصصات) وشاركت مونيكا في القسم الأول ببحثها (الوساطة mediation والوسيطmediacy  والتبئير).
وتعالج مونيكا في هذا البحث المفاهيم البنيوية التي وضعها المنظر النمساوي فرانز كارل ستانزل على خلفية ما اجترحه جيرار جينيت من مفاهيم “القصة والخطاب والتبئير”، وما أضافه سيمور تشاتمان لهذه المفاهيم من تصورات سيميائيَّة.
وترى مونيكا أن مفهوم التبئير هو واحد من الإشكالات ما بعد السرديّة، والسبب النماذج السرديّة التي قدمها المنظرون الكلاسيكيون.
فالمنظرة ماك بل مثلا ترى التبئير عملية انطباق ما بين مستويات القصة والخطاب فيتزامن التبئير مع الوساطة والوسيط ويغدو التداخل فيما بينها ضروريا ومعياريا على الصعيدين النظري والعملي.
أما ستانزل فقدم نظرية مغايرة، فيها التبئير لا علاقة له بتوسط السارد بين القصة والخطاب لأن لا تأثير مباشرا له وهو يقدم وجهة نظر، ليس هو فيها من يرى ولا هو من يتكلم.
وإذ ركَّز ستانزل على القصة كتاريخ فيها السارد هو الوسيط، فإن تشاتمان ركّز على القصة كخطاب فيه وسائط متعددة كأفلام أو باليه أو دراما.
ومن ثم يكون التناقض حاصلا بين مفهومي (الوساطة والوسيط) جودة وأصالة. وهو ما يؤدي إلى اختلاف تعريفات السرد وعدم توافقها من ناحية التمييز بين القصة والخطاب، الأولى كبنية تاريخية عميقة والثاني كبنية نصية سطحية.
وترى مونيكا في هذا التصور تعارضا من الناحية النظرية بين مفهومي التبئير والتوسط عند كل من جينيت وستانزل. فجينيت عدَّ التبئير مصطلحا قياسيا بينما ربطه ستانزل بصلات مع مواقف سرديّة ثلاثة هي: التسريد storytelling والمنظور perspective والصيغة mode .
ولأنَّ هناك تشابها بين وجهة النظر أو التبئير، وبينه وبين الوسيط عند ستانزل، تساءلت مونيكا ما مدى إمكانية أن تتوازى القصة أو الخطاب داخل السرد؟، وكيف تضيف الوسائط الافتراضية إليهما حبكات حين تكون حكايات خرافيّة أو أفلاما أو رسوما متحركة؟.
ووجدت الحل يكمن في إعادة النظر إلى كل من القصة والخطاب بوصف السرد عملية كلية لا تحتاج وساطة ووسيطا أو تقسيما ثنائيا، مما اعتادته نماذج النظر السردي التي استقرت على أن القصة/ الخطاب ثنائية يؤدي احدهما إلى الآخر، متعاملة مع هذه الثنائية كعملية متسلسلة قبل وبعد؛ أي أن هناك قصة يتم تحويلها إلى خطاب عن طريق سارد هو وسيط، أيا كان هذا الخطاب فيلما أو عرضا مسرحيا.
وتعود أصول هذا التقسيم الثنائي إلى الشكلانيين الروس فكان أن تحدثوا عن ثنائية الحكاية (fabula) والحبكة ((syuzbet وجعلوا النسق الخطابي يتحقق من خلال عناصر القصة كما فعل شكلوفسكي في مناقشته رواية (تراسترام شاندي) ثم طور فورستر تلك الثنائية في ثنائية المتن/ المبنى كقصة مسلسلة من أفعال محبوكة ومثاله (مات الملك ماتت الملكة) حكاية تتحول بالتحبيك إلى قصة (مات الملك ثم ماتت الملكة حزنا عليه) وعمد سيمور تشاتمان إلى الانتقال بمستوى القصة إلى مستوى الخطاب عبر التركيز على الكلمات والصور وليس الأفعال فقط، فصار التركيز على تبئير صوت من يرى ومن يتكلم.
بيدَ أنَّ مونيكا اختلفت عنهم في تركيزها على وجهة نظر القارئ فوجدت أن القول بثنائية القصة/ الخطاب يحمل القارئ على إعادة بناء القصة من خلال الخطاب. وهي عملية تراها مرهقة خاصة مع روايات حديثة مثل يوليسيس لجويس 1922 وابشالوم لفولكنر 1936 أو الكلمات الأخيرة الشهيرة لتيموثي فيندلي 1981 فهذه الروايات تتطلب جهدا بطوليا ـ على حد وصف مونيكا ــ كي يتمكن القرّاء من معرفة ما حدث وإعادة ترتيبه. وتقترح أن يكون التعامل مع المنظور القرائي لا من ناحية التقسيم الثنائي خطاب/ قصة، بل من ناحية أن القصة تركيب ومخطط كرونولوجي وإنتاجي.
وبذلك تكون مونيكا قد أفصحت عن توجهها ما بعد الكلاسيكي في النظر إلى السرد ككلية جشتالتية لا وجود فيها للثنائيات ولا صحة لأية تجزئة أو انقسام، فالقصة خطاب وهي من وجهة نظر القارئ نص ليس فرضا فيه أن يصنع المؤلف السارد، والسارد يحوّل النص القصصي (ما حدث) إلى خطاب يقرأه متلقٍ يُعيد بناء القصة من خلال الخطاب.
فهذه عملية غير مقنعة باعتبار أن الحبكة هي الأساس الذي عليه يُبنى الخطاب ولا علاقة لذلك بمذكر أو مؤنث، وتضرب مثلا بالقصص الخيالية التي كتبتها انجيلا كارتر كما لا تتقيد الحبكة ببيانات المؤرخين وتضرب مثلا ببول فين وما كتبه حول تاريخ الحرب البيلوبونسية وصعود طبقة النبلاء، بل الحبكة تتقيد بالقارئ النموذجي لهذه القصص خيالية كانت أم تاريخية.
وتستند مونيكا إلى طروحات بول ريكور وهايدن وايت في تأكيد أن الكتابة التاريخية تصنع قصصا جديدة ليس فيها فصل بين القصة والخطاب كما تتبنى تفسير بربارا همستون سمث في أن الذي يجعل معظم الناس يتفقون على نص ما هو أنهم يشتركون في الخلفية الثقافية ولديهم توقعات مماثلة وتقاليد واحدة.
وإذ أخذت مونيكا على تشاتمان اتباعه قواعد تشومسكي التحويليَّة وافتراضه أن النموذج اللغوي يوازي القصة بالخطاب والصوت بالصوتيم، فإنها أعجبت بما طرحه والش في كتابه (الفابولا والخيالية في النظرية السردية) لا سيما رأيه في أن القصة تغلب الخطاب كأولوية فيها المعطى الخيالي أو الفابولا لا يقوم على تراتبية قصة/ خطاب، بل الفابولا هي التي تفسر السرد أي أنها ليست سلسلة أحداث تصنع الحبكة بقدر ما هي إنتاج ثانٍ للعملية السرديَّة التي من خلالها يفسر الخطاب.
فالفابولا بحسب والش تمرين سردي في إنشاء التماسك التمثيلي من أجل تحقيق الإدراك الخطابي أو هي الصخرة التي عليها يرتكز السرد وتترسخ وظيفته الكورونولوجية.
ومن تفنيد ثنائية القصة/ الخطاب تصل مونيكا إلى تفنيد ثنائية الوساطة/ الوسيط، وتبدأ من الطريقة التي بها تعامل تشاتمان مع مفهوم التبئير حيث أعطى الأولويَّة للمستوى البنيوي العميق.
وهو المستوى الذي فيه تكون للوسائط الافتراضيَّة أدوار في أن تقدم القصص كأفلام من إنتاج والت دزني كارتونيَّة لا تحتوي على حبكات. فيغدو السرد ممارسة فيها مستوى القصة قبل مستوى الخطاب، لأنَّ الخطاب سيتصور على انه تحويل للقصة من خلال وسيط mediciay سارد حتى وإن كان بلسان حيوان.
وإذا كانت عملية توسط السارد في القصة أمرا مفروغا منه بشكل عام وتم تحديده من قبل روبرت نيتش 1934 وكيت هامبرغر وكيت فريدمان 1965 فإن ستانزل قدّم مفهوم الوسيط  mediciayعام 1955 وجعل التوسط متوازيا مع مفهوم الانتقال أو التحويل transmission عند تشاتمان الذي اجترحه على خلفية مقال كتبه شكلوفسكي عن رواية (ترتسترام شاندي). فالانتقال يحصل على مستوى التحول في وظيفة السارد كأن يكون علنيَّا أو مستترا. وتعترض مونيكا على مفهوم الانتقال في انه يحصل في الدراما بلا وساطة كما انه يربط بين ثنائية قصة/ خطاب في عملية تحويل الحبكة على مستوى البنية العميقة على أساس أن التمثيل القصصي مستحيل على المستوى
السطحي.  
وما تراه مونيكا هو أن لا تمييز بين الوساطة والوسيط بالمفهوم التشومسكي للبنية السطحية والبنية العميقة، لأن القواعد النحوية ليست هي الهدف من التمرين السردي كما أن الممكن أن يكون للحبكة تبئير صفري حيث البنية العميقة معادلة للبنية القشرية للسرد. والمهم في السرد هو أن يرى من عقل شخصية. أما إضافة الحزن إلى جملة “مات الملك ماتت الملكة” فليس سوى حبكة لكن بنسخة أخرى. وإذا كنا نعرض العالم الخيالي بصوت السارد أو بصوت شخصية من الشخصيات أو عدة شخصيات، فإن الأمر لا يفرق بالنسبة إلى القارئ الذي عليه أن يقوم بإعادة إنشاء تسلسل زمني للعالم الخيالي بشكل واقعي ومتناسق. وتختتم مونيكا دراستها بالقول: لا وجود لافتراضات سردية متوافقة تريد الوقوف بوجه الموجات التنظيريَّة التي أثارها المنظرون السابقون.