حربي محسن عبدالله
بين يدينا كتاب {موت التاريخ}، والكتاب يحمل عنواناً فرعياً هو {منحى العدمية في أعمال محمود درويش الأخيرة}، للناقد والشاعر الجزائري أحمد دلباني، صادر عن دار التكوين في دمشق. يأخذنا دلباني في كتابه هذا نحو لحظة وجودية دقيقة للذات حين ينطفئ كل ما سواها، شعر محمود درويش هنا كما يؤكد دلباني، بمعنى ما إفاقة على موت التاريخ واكتشافاً فجائعياً للموت الفردي الذي أسدل الستار على سردية البطولة وشعرية الوجود ليشرف منه على نثر العالم وسديمه.
منذ البداية يقرر دلباني بأن كتابه هذا لا يدعي البحث النقدي/ الثقافي بمجمل المنجز الشعري للراحل الكبير محمود درويش، بل هو "محاولة في الاقتراب من منحى العدمية الذي وسم أعمال درويش الأخيرة ولفعها برداء المرارة الوجودية".
لم يعد التاريخ صراعاً جدلياً ولم يعد مقاومة ملحمية بل عنفاً يفتقد إلى الغاية. هنا انتصر مكبث على ماركس. يقول درويش بنبرة حادة في قصيدة "لا تعتذر عما فعلت" (لاتكتب التاريخ شعراً، فالسلاح هو المؤرخ) مشيراً إلى أن معنى التاريخ هجر مخدع العقل وألق الملحميات ليجد ينبوعه في النثر في أتون القوة التي صنعته وكتبته.. لكن ماذا يعني موت التاريخ ؟
موت التاريخ برأي دلباني، لا بالمعنى الذي ابتهج له أنبياء العولمة الجدد والمبشرون بالعهد الأمريكي وجنة الاستهلاك الليبرالية، إنما بالمعنى الفلسفي الذي جعل منه ـ لعهود طويلة ـ معبراً يقود إلى الأرض مفتوحة على زمن مضاء بالإنسان. مات التاريخ بوصفه وعداً بالعدالة والكرامة وبوصفه نشيداً ظافراً وزمناً آهلاً بلازورد الحرية الكيانية وصداقة الريح والبحر.
هنا غابت في البعيد كل شعارات الأمس وضجيجها وأعراس الهتافات وكليشيهات المزايدات الايديولوجية، التي هي نعاس الثقافة، وتلاشى خطباء منابرها. فقد "أنضجتْ الحكمة صورة الشاعر وجعلته أكثر تخلصاً من فضيحة السقوط في الجماعي، هنا اكتشف محمود درويش ذاته الفردية، مطلاً منها على هشاشة الحياة ومدركاً أنها لا يمكن أن تكون إلا كسفينة نوح في غمرة الطوفان القادم أبداً".
كان درويش ـ كما يؤكد دلباني ـ شديد الانتباه إلى صخب العالم ورهانات المعنى ودلالات الأشياء الكامنة.
فهو شديد الانفتاح على كونية الجرح والمنفى وصراع الإنسان الأبدي مع آلهة الظلام في الرحلة القاسية إلى جزر الضوء.
وبعد أن كان درويش يرى أن تراجيديا الشعب الفلسطيني الشريد لا تتطلب نجدة السماء ولا إسعاف الآلهة، وإنما النضال البشري الذي هو انخراط في تصحيح وجهة التاريخ الذي يكتنز ـ حتماً ـ بتابشير الخلاص من كل أشكال الاغتراب والاستلاب والهيمنة.
يقول دلباني "كان المجهول الذي نسافر إليه نقطة عليا وهدفاً كيانياً تجهز له الحضارة كل روحها الملحمية باعتباره طريقاً ودلالة تمنح الزمنية علواً ومعنى. أما الآن فلا. لقد انكسر نشيد مسيرة الإنسانية إلى قهر العبثية على صخرة الزمن الناتئ كحجر يعلن موت الملحميات ولا جدواها".
هنا أصبحت الرحلة دخول في غابة أو في طرق لا تؤدي إلى أية جهة كما كان يعبر هيدغر.
يؤكد دلباني أن درويش وهو يتأمل من خلال تجربته النضالية ومن خلال مرحلته، ملاحظاً أن التاريخ كف عن الوعود ولم يعد معبراً إلى ضوء الآتي، ما جعله يتخلص من عنف الفكر الذي ظل يعتقل العالم في النظرية الشمولية، وظل يوهم أصحابه بإمكان معرفة المصب السعيد لنهر الزمن.
لقد كشف التاريخ الفعلي عن كونه تكراراً جنونياً (من المقلاع حتى الصاعق النووي) كما يعبر درويش في قصيدة "لا تعتذر عما فعلت"، وكشف عن وحشيته وعن خوائه من البعد الإنساني. من هنا يأسف درويش ـ بكل تأكيد- لتلاشي الغائيات الكبرى.
في الختام يؤكد دلباني: على أن المسار الذي جسدته تجربة محمود درويش هو من الثورية إلى العدمية وهذا ليس تقييماً لتجربة شعرية وفكرية غنية بقدر ما هو وصف لمسار قاد صاحبه إلى أن يكون ممثلاً لوعي ظل يعتمل داخل رحم المرحلة وظل يرسم منحاها العام، أعني ذلك المنحى الذي خبا فيه ضوء التاريخ بوصفه انبجاساً لينابيع المعنى ولأبجديات التحرر الشامل للإنسان.
لقد أصبحت العدمية السمة الأكثر حضوراً في كتابات درويش الأخيرة.