محاولة لعصرنة التراجيديَّة الشكسبيريَّة

ثقافة 2023/07/05
...

 فاروق صبري

من بين النصوص المسرحية يعتبر النص الشكسبير أكثر وأوسع فضاء للتأويل والتخييل.. نصوص وليم شكسبير المسرحية  تملك طاقات، سياقات درامية متقاطعة، مثيرة، متناحرة تتواجد تفصيلاتها - أو بعض منها- والمتشابهات لها في جميع الأزمنة والأمكنة، لذلك يمكن الغوص فيها والتعاطي معها كونها لا تشيخ ولا تذبل حيويتها المزدحمة بالتساؤلات وتأثيراتها المقلقة في حياة الإنسان.

لذلك يمكن القول إن نصوص “هملت”، “عطيل”، “مكبث”، “روميو وجوليت”، “ريتشارد الثالث”، “ الملك لير” يمنح القراء والمشاهدين معنىً متحركاً ودلالة متجددة، فيما إذا تمكن المخرج المسرحي قراءة هذه النصوص برؤية، فيها الكثير من المغامرة الجمالية والكثير من جعل النص الشكسبيري منطلق ومتأسس عبر يوميات معاصرة.

وهذا الأمر، عصرنة النص الشكسبيري كانت الإنشغال المهم والحيوي للعديد من المخرجين المسرحيين، الذين تناولوا نص (الملك لير)، فمنذ كتابته عام 1605، إذ استوحاه وليم شكسبير من إسطورة ملك قديم وحتى تقديمه عام 1606 اختلفت قراءته إخراجياً من زمن إلى وقت آخر، ومن مخرج إلى مسرح ثانٍ ومن بلد إلى قومية أخرى، ومن الانكليزية إلى لغات العالم المتنوعة، ومن مجتمع ريفي صحراوي قلق إلى حياة اجتماعية عادلة وآمنة.

ويمكن أن نتوقف عند اختلاف وتنوع معالجة مسرحية (الملك لير) بصرياً وفكرياً مع عرض مسرحي شاهدته على مسرح ووتر فرونت، فالمخرجان ميشيل هارتس وبنانجام كيلي -والأول مثّل شخصية لير- لم يلتزما بسياقات سرد النص كبنية كتابية بشخصياتها وأحداثها، وإنما خلعا النص من تاريخيته، التي تنتمي إلى السادس عشر الميلادي كي يسحبانه من زمكانيته-أي النص الشكسبري – إلى حيث يعيشان العرض والمتلقين في مدينة أوكلاند-نيوزلندا عام 2023. 

فالمخرجان هارتس وكيلي والممثلون والتقنيون أصحاب خبرات كبيرة في مجال المسرح، حاولوا الخروج من ثوب العصر الاليزابيثي، في هذا السياق يقول مخرج العرض ومشخص دور لير(ميشيل هارتس): “المسرحية شيء من المعجزة.

إنها تعمل على مستوى محلي حاد، ولكنها تمتلك نطاقًا أسطوريًا حقًا. 

إنه يذكرنا نحن البشر بالتعامل مع الحياة والتعامل مع الموت والتعامل مع بعضنا البعض.. من كلمة هارتس موجودة في بروشور العرض”، إذ جاءت محاولتهما في دفع النص الشكسبيري، ولنقل زمكانيته إلى العصرنة، وإلى إخضاع منطقه، ولغته، وشخصياته وصراعاتهم، وأحداثه وتواتراتها إلى سياقات حياتية معاصرة، فيها أيضا الكثير من أطماع وأحقاد وإنتهازية بنتي لير، (كونيرلا) و(ريغان) ووفاء ابنته الصغرى (كورديليا) وسذاجة (لير) نفسه والروح الانتقامية عند (أدموند) وطيبة(ملك فرنسا) وشهامة (كنت)، واللتين شخصتها ممثلتان، فيما المعروف أن جنسيهما رجل في النص الأصلي، ومثل هذا التغيير شمل شخصية مهرج الملك لير، إذا جسدتها ممثلة كمغنية ملاهي، وكان بدء مشهدها الأول، وهي تغني فيه جمالية بصرية ممتعة، ومؤثرة تجلّت أكثر في مشاهد تجمع بين الملك لير 

وبهلوله، المغنية.

 ويبدو أن تحديث حدث وشخصيات نص (الملك لير)، استوجبت أيضاً إلى عصرنة الملابس والأكسسوارات، وإلى تغيير فضاء العرض والذي جاء على شكل مستطيل طويل، يمتد من أيمن الخشبة إلى أيسرها، وجعل خلفها مدرجاً جلس عليه الجمهور مثلما إتخذوا أماكنهم في الطرف المقابل داخل الصالة، وهو حلٌّ بصري جميل، لكن المسرح في العراق بدأ بمثل هذه الحلول البصرية، أي تغيير فضاء العرض منذ سبعينيات القرن الماضي، هذا المكان المستطيل الطويل، الذي لا يوحي بارسطقراطيته غير ثٌري تظهر وتختفي وفق توالي الأحداث، بدا لي كأنه نهر بلا ماء، مجرى جاف وقاس، حيث هيمن عليه لون الأضواء الصفراء في معظم مشاهد العرض المثقلة بالمؤامرات والأطماع والأحقاد والأكاذيب والدماء، وحالة القهر والحرمان والخيبات، التي جسدها المخرجان عبر مشهدية بصرية بقدر ما تظهر بسيطة، ولكن دلالاتها مؤثرة ومؤلمة، إذا نرى (لير) بعد أن تطرده بنتاه اللواتي أخذن كل ما يملك، نراه وفي رأسه تاج من الكارتون الأبيض، يرمي التاج الكارتوني أرضاً ويدوس عليه، فماذا أراد المخرجان يقولا للمتلقين، هل بينا بأن التاج الملكي لا فائدة منه، إذا لم يكن الملك حكيماً وعادلاً وذا عقل نيّر، هل دفعا بشخصية (لير)، بألا يرى في تاجه الملكي غير كارتون، لأنه فقد سلطته وسويته، لذلك يظهر شبه عار ومذل يجلس على كرسي “إسطول” صغير جداً بجوار جدار فضاء العرض الأيمن، وممازاد من الطاقة الفكرية والجمالية لهذه المشهدية البصرية، التي رسمها المخرجان هارتس وكيلي إستمرارها لزمن طويل للعرض خلاله نلمس ذٌل وخيبة وصمت (لير)، الذي نسمع في دواخلنا بوحه الموجِع “ما هو أكثر حدة من سن الثعبان أن يكون لديك طفل غير ممتن”. 

بينما المؤامرات تتكامل وتتفاعل وتتصارع حوله من قبل ثعابين بشرية، لم يتوقفوا عند حالة عدم الامتنان للملك لير، وإنما صارت (ثعابين المملكة) تلدغ بعضها البعض، هذا ما تنتهي إليه علاقة الأختين، (كونيرلا) و(ريغان) وعلاقتهن الشاذة المثلية مع (أدموند) وعلاقة هذه الأخيرة مع زوجي الأختين في سياق أطماعها، ووتيرة حقدها ضد أخيها الشرعي ومحاولة إنتقامها منه، هذه الصراعات الدرامية لا تتجسد عبر المنولوجات أو الديالوجات الشكسبيرية المتقنة جمالياً، وإنما في سياقات لغة بصرية متواترة ومشحونة بجمالية عالية في المتعة والمعرفة، هنا نشير إلى مشهد العاصمة، أمطار ورعود وإحساس بالخيبات  لعب الممثلون عبر مرونة وطاقة أجسادهم وتقنية أصواتهم، التي قامت بتدريبها مدربة الصوت كريستي سليوفان، ممثلون لا ينطقون بالحوار فقط وإنما أجسادهم ترسم المشهد البصري في صياغتها بطريقة رائعة ومن دون مبالغات شكلانية، ولعبت المؤثرات الصوتية والموسيقية (جوهان كبسون) والإنارة (فاندا كروليزك)، هؤلاء جميعا رتلوا باصواتهم وأجسادهم تراجيدية إنسانية متوجعة وموجعة انتهت هنا في مسرحية (الملك لير) كما هي معظم مسرحيات شكسبير 

الخالدة.