حسن الكعبي
جملة الاعتراضات التي رافقت ترشيح «ايزرا باوتد» لجائزة نوبل، سمحت بظهور النقد الثقافي، ووضع الحد الفاصل بينه وبين أحكام النقد الأدبي، فازرا باوند وفق الاحكام النقدية الأدبية التي تعنى بالجمالي، كان مستحقا لهذه الجائزة بوصفه شاعرا عظيما وصانعا أمهر على حد تعبير «اليوت»، لكنه ووفقا لأحكام النقد الثقافي، بعيدا عن كل استحقاق نظرا لمواقفه الفاشية ونزوعه الشوفيني المتواطئ مع التمركزات الاقصائية في تمثيلات الفاشية.
هذه الرؤية سمحت بنزع مخزون الانبهار لاعن أعمال باوند وحسب، بل عن أعمال فلاسفة وأدباء كان ينظر إلى أعمالهم الى وقت طويل، على أنها اسهامات في بناء العالم، إلى كونها اسهامات في بناء النزعات العدمية والشوفينية والأنظمة الشمولية، بمعنى أن وضع هذه على الأعمال على محك النقد الثقافي أنتج رؤية مخالفة للمنظورات الجمالية، التي اختصت هذه الاعمال بالمرموقية.
في مطلع هذه الأعمال تندرج منجزات «شوبنهار» بمنظوراته العدمية التشاؤمية، بوصفها التضاد الأمثل مع منظورات هيجل المثالية التي بلورها في منطقه الجدلي القائم على المرتكزات الثلاثة (الاطروحة ونقيضها والنتيجة)، ففي منظور هيجل في المادية التاريخية، فإنَّ المادية التاريخية تخضع لحتميات جدلية تبدأ بالفكرة ونقيضها وتنتهي إلى نتيجة، والنتيجة ذاتها تتحول الى فكرة لأنها ليست قطعية، بل خاضعة للشك مما يسمح بوجود فكر نقيض يؤدي ايضا الى نتيجة اخرى وهكذا، وتأثر بهذا المنظور «ماركس» وأنتج من خلاله ابداعاته الإنسانية، كمنظور تفاؤلي يرى أن الأفكار الخاطئة، هي نتوءات في جسد الفكر، وليست عقبات لا يمكن تجاوزها، في حين أن منظورات شوبنهار العدمية ترى في كل نتوء عقبة يجب معاداتها، من هنا رحل منظوراته التشاؤمية ، وانتج ما يشبه مستويات طبقية في منظومة الفكر، وعلى المستوى الانساني، الذي سمح بتبرير عدائيته للمرأة وللإنسانية بشكل عام.
الخطابات العدمية تنزلت في انتاجية «نيتشة وفرويد»، كخطابات تمجد القوة والعزلة الإنسانية ونزعات الفردانية، ومعاداة التحضر والعودة إلى التوحش واختزال الإنسان في أبعاده العصابية والوحشية الشهوية، ومن ثم دعم المنظورات التوليتارية وأنظمة الحكم الشمولية المعادية للديمقراطية، بوصفها الصيغة الأمثل في حل الاشكاليات الاجتماعية والسياسية، التي واجهتها الانظمة الغربية في مسعى منها لتسوية الاختلافات العرقية والدينية والثقافية، وقد نجحت هذه الصيغة في بعض الدول وأخفقت في اخرى تبعا لتطبيقاتها ومتضمنتها التمثيلية، فالديمقراطية تمتلك أشكالا وصيغا متعددة فهنالك الديمقراطية الليبرالية، والتي تتضمن ضمان حقوق الفرد فيها، وهي الشائعة في الغرب وهنالك الديمقراطية الشعبية التمثيلية، التي تتعارض مع حكم الأقليات والنخب الأوليغاركية، والديمقراطية النيابية، وديمقراطيات أخرى تتخذ طابعا من انظمة الحكم
الشمولي.
إن التعثراث في صيغ الديمقراطية هي نتاج وجود (اعداء حميمون لها) كما يقول «تودورف»، ويقصد بذلك أن هذا الاختلاف في صيغة الديمقراطية جاء بمعونة من أبنائها من المفكرين والفلاسفة من دون أن يسمي «تودورف» أحدا، ولكنه درس ظاهرة اشكالية الديمقراطية في عموميتها، لكنها بالتأكيد تسري على هؤلاء الصفوة كأساتذة في صناعة اليأس والنزعات العدمية، كما تقرر (نانسي هيوستن).
إن الازدراء للديمقراطية في تصورات هؤلاء الفلاسفة (بدءاً من افلاطون ونيتشة ومارتن هايدجر وسوريل وموراس وشاخ وكارل شميث واخرين). قد يجد له مبرراته، إذا كان الحديث يتمحور حول تضمنيات جزيئية كامنة في الديمقراطية قد تقودها لأن تتماثل مع النظم الشمولية، لكن التصورات الفلسفية كانت تتحدث عن الديمقراطية بشموليتها، بل إن كثيرا من هذه التصورات كانت مؤيدة للفاشية والنازية ولحكم الاقليات الاوليغاركية، وبالمجمل فإنها وضعت قواعد للاسس
التوليتارية.
وباستثناء افلاطون الذي اعتقد أن الحرية في الديمقراطية هي شكل من اشكال الفوضى، وهي تكريس لاخلاقيات حكم القطيع، وتبعه نيتشه في ذلك والذي اعتبر الحكم الديمقراطي وريثا للمسيحية، التي كان يزدريها بشكل كبير، لأن المسيحية برأيه هي تكريس لاخلاقيات القطيع، بل هي كما يشير (الأخلاق في أوروبا اليوم هي أخلاق حيوانات القطيع) باستثناء ذلك فإن بقية الفلاسفة صرحوا علانية بتضامنهم مع الانظمة الشمولية كالفاشية والنازية كــ (مارتن هايدجر)، الذي انتمى للنازية، وكان هذا الانتماء سببا في اختلافه مع المفكرة الالمانية (حنه ارندت)، التي ارتبطت به بعلاقة عاطفية كبيرة ابان تتلمذها على يده، وتابعه في الانتماء روبرت ميشال، الذي وضع نظرية (القانون الحديدي للاوليغاركية)، التي كان منحازا لها، واعتبر الديمقراطية بمثابة المحاولة لتدميرها، لذلك فقد تنصل عن ماركسيته وانجذب إلى نقابية (سوريل وإدوارد بيرث وأرتورو لابريولا وإنريكو ليون)، وأصبح معارضًا للاشتراكية البرلمانية والديمقراطية الاشتراكية، وساند في المقابل اشتراكية النشطاء والمتطوعين والمعارضين للبرلمان، وأصبح بعد ذلك مؤيدًا للفاشية مع تولي موسوليني للحكم، لأن هدف الفاشية يصب في سياق محاولة تدمير الديمقراطية الليبرالية.
تبقى هنالك بعض الآراء الفلسفية والسياسية الجديرة بالاهتمام والتأمل، لكونها تنتقد بعض الجزئيات في التصورات الديمقراطية، وهي آراء موراس ولاجارديل، فقد رأى موراس الذي انتقد نظرية العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو بأن (التمثيل الديمقراطي البرلماني يجعل المصلحة القومية أو الصالح العام أقل شأنًا من المصالح الخاصة لأعضاء البرلمان؛ حيث تسود فقط المصالح القصيرة النظر الخاصة بالأفراد)، وانطلق هوبير لا جارديل في نقده للديمقراطية من منطلق كونها «الشكل الشائع لهيمنة البرجوازية»، وناهض لاجارديل الديمقراطية بسبب شموليتها وآمن بضرورة فصل طبقة البروليتاريا عن البرجوازية، حيث إن الديمقراطية لم تميز الاختلافات الاجتماعية بينهما.
لكن مجمل هذه التصورات وبغض النظر عن صحة بعضها وأخطاء بعضها الاخر، إلا أنها تبقى - أي هذه التصورات - هي الأساسية في تبرير الأنظمة الشمولية وسيادة الفاشية، ومنحها الشرعية في تطبيق قوانينها الحديدة والصارمة في قمع الحريات الفردية والفكرية على النحو، الذي شهده العالم بشقيه الغربي والشرقي مع تجارب الحكم الشمولية وطابعها الانتاجي المضاد لمفاهيم العدالة الاجتماعية والمساواة ومفاهيم التسامح الانساني المتضمنة في صيغ الديمقراطية.