أحمد عبد الحسين
أضع يدي على قلبي كلما تحدث مفكرٌ عن تجديد الدين أو تحديثه أو عقلنته أو أنسنته أو عصرنته. لأني أعرف أنَّ مصائبنا التي نغطس في مستنقعها؛ كلّها بتمامها نتاجُ مفكرين أرادوا تجديد الدين، أيْ جعله موائماً لعصرهم، مشاركاً في الفضاء العموميّ للناس، قابلاً للتعقّل وبالتالي داخلاً بقوّة في المعيش واليوميّ. وهذه هي الوصفة المثلى للكارثة.
الدينُ عقيدةٌ وتعبّد، أي فكرة عن الله وطقوس تؤدّى لله، ليس أقلّ أو أكثر من ذلك. العقيدة مكانها القلب، والتعبّد مكانه المحراب. وما إن يخرج الدينُ من القلب ومن المحراب حتى يتحوّل إلى كائنٍ يفتك بالعباد.
أسأل: لمَ كلّ المفكرين المجددين لا يطيقون رؤية الدين قارّاً في القلب أو المحراب؟ إنهم يريدونه يتنفس خارجاً في الفضاء العامّ، يجعلونه طليقاً ثم يندهشون حين رؤية المجزرة. يرون الكتب الأساسية “القرآن وكتب الحديث” ملأى بما يسمونه “هوامات وأساطير وخرافات” فينهمكون في تأويل الآي القرآني بما يتناسب و”العقل” ويستبعدون الأحاديث التي “لا تتوافق مع المنطق” ليكون الدين قابلاً للتعقل، قابلاً للتقبّل وبالتالي قابلاً لأن يتسلّم مقاليد الأمور.
ماذا لو كانت هذه الانفلاتات التعبيرية التي في القرآن والحديث هي جوهر الدين الذي يأبى أن يفارق موطنه الأصليّ الذي هو القلب؟ ماذا لو أننا جررنا العقل إلى أصل الدين، إلى لحظة الوحي وحاكمناها بهذا المنطق التجديديّ؟ ما الذي يبقى منه؟
كلّ الذين جدّدوا لم يفعلوا شيئاً سوى إخراج الدين من قلب الإنسان ومحرابه وسلموه سلاحاً وفتحوا له الباب ليخرج مستولياً على العباد والبلاد.
لا يطيق المجددون رؤية الإيمان سلطاناً على القلب وحده. لا يطيقون رؤيته صلاة وتعبداً، يريدون له أن يمتلك الحياة وأن يستغرق معيش الإنسان بتمامه، وفي كلّ مرة، مثل كلّ مرة، يفشل المشروع وتعطي الشجرة ثماراً رديئة، لا بسبب سوء الشجرة، وإنما لأنها اقتلعت من أرضها الطيبة وزرعتْ عنوة في أرض خبيثة.
أقرأ هذه الأيام لمجددين معاصرين كل عملهم يتمحور حول التالي: تخليص الدين من الأساطير التي فيه، تشذيب كتب عظيمة ككتاب الكافي أو تقطيع أوصال كتاب “بحار الأنوار”، وفي حسبانهم أنهم إذ يفعلون ذلك فإنما يجعلون الدين أكثر عقلانية، ويجعلون الناس تقبل عليه لـ”عقلانيته”. وفي ظني أنهم حتى لو نجحوا فإنَّ المحصول الجديد لن يكون سوى دين عاقل لا مهمة له سوى الاستيلاء على الحياة كما استولى عليها من قبلُ بفضل مجددين شوّهوا الدين.
دين الناس، الذي هو موجود في القرآن وفي كتب الحديث، مداره العقيدة والتعبّد. وهما قابلان للحياة والازدهار وخدمة الناس روحياً بعيداً عن كونهما عقلانيين أو غير عقلانيين. وكتب الحديث الملأى بالمعاجز “التي لا يصدقها العقلانيون المجددون المفكرون المتنورون” صمدتْ في القلوب عشرات القرون وكانت مكتفية بمكانها الأليف: قلب الإنسان ومحرابه. فما للدين وللمعاصرة والتجديد والتحديث والأنسنة وللعقلنة؟
كل هذه الأسماء إعدادات لحيازة رأسمالٍ مادي أو رمزيّ باسم الدين الذي يتقزّم حالما يخرج من مكمنه الأليف الصغير لكن الواسع سعة رحمة الله. في الحديث القدسيّ: “ما وسعتني أرضي وسمائي ولكنْ وسعني قلبُ عبدي المؤمن”. ولهذا أضع يدي على قلبي كلما سمعت بولادة مفكر إسلامي جديد لأني أعرف أنّه يريد أن يُخرج الإيمان من عرش الرحمن ويسلمه بندقية ويفتح له الباب ليخرج علينا.
كل “تجديد” دينيّ فيه كارثة تلوح في الأفق.