الصلاتُ الاستشراقيَّة بين العرب والروس

ثقافة 2023/07/05
...

 د. فارس عزيز المدرس



 هناك ملاحظةٌ مهمةٌ في دراسة العلاقة بين الحضارتين العربيَّة والروسيَّة غالباً ما يجري طمسها؛ ومَفادها أنَّ جهودَ الرحالةِ العرب الأوائل شكّلت ثِقلاً مَعرفياً للباحثين الغربيين؛ إذ كانت معلوماتُهم عن الأقاليم السُلافيَّة فقيرةً جداً؛ لولا استضاءتها بمدوّناتِ الرحالةِ العرب.
وفي المقابل نجد- الغالبُ على التفكير الغربي- عدمَ الاعتراف بالفوائدِ العلميَّة المتأتّية مِن دراسة الشرق؛ في حين ينظر الاستشراقُ الروسي إلى تراثِ الشرقِ نظرةَ الندِّ للندّ؛ مُعترفاً بفضل الشرقِ على الثقافة الروسيَّة، وسِمة الاستشراقِ الروسي تتمثّلُ بولعِه بدراسةِ الجانب الجغرافي للأقاليم الإسلاميَّة القديمة، فالمستشرقون الروس شكّلوا امتداداً لجهودِ الرحالةِ العرب؛ الذين عنوا بجغرافية شرقِ الدولة الإسلاميَّة. 


 البدايات 

يلاحظ المؤرخُ الكبير بارتولد (Bartold) أنَّ وجودَ آثار العمْلاتِ العربيَّة القديمة في روسيا يعني التفوّقَ الحضاري العربي آنذاك على دول أواسط آسيا قديماً، فقـد كـان مـِن عـادةِ الـشـعـوب ذات الحـضـارة الأكثر رقـياً مقايضةُ بضائع الشعوب الأدنى حضارةً بالنقود، مما يعني الثقةَ باقتصادها وحضورها. 

أمّا في المجلاتِ العلميَّة والثقافيَّة- وبحسب ما يؤكد المستشرق كراتشكوفسكي- فالأمرُ أوسعُ مِن ذلك؛ فمثلاً يشكّلُ شيوعُ مصطلحاتِ الطبِّ العربي في روسيا دلالةً على الصلات العميقة وعلى رقي الحضارة العربيَّة. ونلمس ذلك مِن خلال الحكيم العربي آنـذاك (بطرس سيريانين) الذي مثّل مدرسةَ الطبِّ السوري في روسيا، التي اكتسبت شهرةً عالميَّةً؛ فضلاً عن علم الفلك والجغرافيا والرياضيات. 


 بدأت الصلاتُ بين العربِ والروس منذ العصر العباسي عن طريق تجّارٍ مِن بغداد قصدوا روسيا، وأقدمُ وصفٍ عربيٍّ كتبه أحمدُ بن فضلان؛ الذي أنفذه المقتدر بالله (921م) إلى ملك البلغار. 

ما أن أشرق القرنُ الثامن للميلاد حتى كان للعرب مُلكٌ فسيحٌ في إمبراطوريَّة حدودُهـا تخومُ الهند في الشرق، والمحيط الأطلسي في الغرب. وكانت إدارةُ هـذه الإمبراطوريَّة تستوجب أموراً منها: معرفةُ الخراج، إذ كان مِـن أوجبِ الأمورِ في الجباية أن يعرفَ الحاكمون حـــال المَسـالك والممـالك؛ طبائع وجغرافيا. 

نشأت الرحــلاتُ العربيَّة منذ القرن الثالث الهجري وظهـرت كتبُ الجغرافيا وألّف المصنّفون في الأقاليم؛ وصوَّروا ما عليهـا مِن مدنٍ وجبالٍ وأنهـار؛ فكتب الكندي وابن جبير وقدامة واليعقوبي وابن بطوطة وابن حوقل والأصطخـري؛ ووصفوا بلادَ المشرق والمغرب؛ مـِن الصين حتى الأندلس؛ ذاكرين حال الشعوب وتقاليدَها وطرقَهـا، وحاصلاتِها... ومِنهم مَن أخفق في الدقّة؛ ومنهم مَن كان مثالاً لها. ومِن الوفـودِ العربيَّة الاستكشافيَّة بعثةُ الخليفةِ الواثق بالله (227- 232هـ) إلى سـد يأجوج ومأجوج؛ وقد حفظ ياقوتُ الحموي شيئاً منها في معجمه؛ على لسانِ سلام الترجمان.


 كـان وصــــــــف ابن فضلان لأوروبا فيه الكثير مِن العجَب؛ إذ طار صوابُه مِن مشاهد التخلف الذي كان يـراه؛ وهو يصف عقائدَ القومِ ووثنيتهـم؛ وكان- إلى جانـب مهمته بوصفه رحّالة- داعية وموجِّهاً إلى الخير. وقد انتُدِبَ مع ثلاثة آخرين للقيام برحلتِه؛ بناءً علـى طلبٍ ملك البلغار من الخليفة المقتدر، وكانت مملكته قرب موسكو؛ فالتمسَ مِن الخليفةِ إرسال البعثة للقيام ببناء حصن ضد يهـود الخزر؛ الذين كانوا يعيثون فساداً. كما طلب إرسالَ أدوية ومعلمين وخبراء، فرحل الوفدُ مِن بغـدادَ عام 309 هـ، وعبـَر نهر جيحـون وبلـغ بخارى، حتـى وصل نهر الفولغا؛ ولاقى خلالها مصاعبَ كثيرة وأهوالاً؛ وصفها ابنُ فضلان وصفاً دقيقـاً؛ يضعه في الصفِّ الأوّل مِن الرحالةِ الأدباء. 

يذكر المستشرقُ فرهن حيـن قدَّمَ لدراسةِ ابن فضـلان بالألمانيَّة: أنَّ تاريخَ روسيا وما جاورها في العصورِ القديمةِ كان غيرَ معروفٍ، ولم يُضئ مِن جوانبه أحدٌ مِن الأوروبييّن. فإذا كان الغربُ قد أغفلَ روسيا فإنَّ العربَ تحدّثوا عنها، وألقوا أنواراً على تاريخ شرق أوروبا القديم، وبذلك فتحوا عيونَ الأوروبيين على معلوماتٍ عجيبةٍ؛ مِن أقصى الهند والصين إلى المحيط الأطلسي. 

وقد استحوذت رحلةُ ابنِ فضلان على عناية المستشرقيـن؛ ففي سنة 1939 صدرت دراسةٌ مهمةٌ لها في موسكو برعاية المُستعرب كراتشكوفسكي؛ حوت مقدمتُها دراسةَ الرحلة وصاحبها، مع مُلحق بالفهارس، وهي مِن أدقِّ ما كُتب عن هذا الكنز. ويمكننا عدّ تلك الرحلاتِ شرُوعاً مبكراً في علم الاستغراب.


 الرحالة الروس

 سبق نشاط الرحالةِ الروس جهود الاستشراق الروسي بزمنٍ طويل، والرحالةُ مستشرقون بامتياز حين تكون رحلاتُهم خاضعة للمشاهدةِ والتدوين، وهذا نلمَسُه من خلال أحاديثِ رئیس الدير الروسي (دانيال الراهب) الذي قضى عامين في بيت المقدس (من عام 1106 إلى 1108م)، وهي تشهد صِداماتٍ مصيريَّة دامية. بلغ دانيالُ القدسَ بعد سقوطها بيد الصليبيين بمدّة وجيزة، وسجّل معلوماتٍ عن مناطقَ زارها؛ تدخل اليومَ في عِداد الآثار المفقودة، وتكلّم بتفصيلٍ عن ثروات القدس، ووصف معاركَ وقعت بين الصليبيين والمسلمين، وزار المعسكرين، وحظي باحترامِ الطرفين فأصبح لكلِّ ما سجّل قيمته كمصدر أصيل؛ دفع الآخرين إلى ترجمتِه إلى الفرنسيَّة والألمانيَّة واليونانيَّة لأغراضٍ ثقافيَّة وجغرافيَّة وتاريخيَّة.

 وبعد مدةٍ ذهب القسيسُ اگريفين الذي زار في سبعينيات القرن الرابع عشر الميلادي القدسَ ودمشق وأنطاكيا ووصل إلى القاهرة والإسكندريَّة. ومِن بعده قطع الرحالةُ فاسيلي آسيا الصغرى، ثم وصل عام 1465م إلى القاهرة؛ بعد أن مرَّ بحلبَ وحماه وحمص ودمشق وغزة؛ فأصبح الأول من بين الروس الذين سلكوا هذا الطريق.


 في جذور الاستشراق الروسي

أمّا عن جذورِ الاستشراق الروسي فمِن الباحثين مَن رأى أنها تعود إلى الربعِ الأول مِن القرن الثامن عشـر، في عهد بطرس الأول، قيصر روسيا الخامس (1672– 1725)، الذي قام بإصلاحاتٍ جذريَّةٍ، منها العناية بالشرق؛ على مستوى البحوث والمعرفة، وهذا نابعٌ مِن سياسته الشرقيَّة، وما اقتضته مصالحُ بلده. 

أمّا عن بداية الاستشراقِ الروسي النظاميَّة فترجع إلى زمن العقدين الأولين مِن القرن التاسع عشر، والذي كان أساساً لِما عُرف بالاستشراق الأكاديمي، وذلك مِن خلال الأقسام والكراسي الجامعيَّة التي أُنشئت. 


موقف الغربيين من الاستشراق الروسي

يستلزم الحديثُ عن الاستشراق الروسي أن نبيّنَ أنَّ هذا الاستشراق لم يقعْ في فخِّ الاستشراق الغربي؛ إذ كان الفضول المعرفي هو الذي يحكمه؛ ناهيك عن مجالاتِ دراساته المميزة؛ لاسيما ريادتُه في ما يخص تاريخَ الأدبِ والجغرافيا والرحلات. ولا نجد مُسوغاً يحمِلنا على غمطِ الاستشراق الروسي مكانته، وهذا لا يعفيه مِن أخطاءٍ وقع فيها، لكنَّ الكلامَ يجري على الاعمام.

 وبحسب ما يرى سعدون الساموك في كتابه (الاستشراق الروسي): انطلق تجاهل الاستشراق الروسي مِن جهاتٍ غربيَّة غالباً ما وصفَته بأنه قليل القيمةِ، وازداد هذا التجاهلُ في مرحلةِ الاتحاد السوفييتي؛ لاعتباراتٍ أيديولوجيَّة متحيّزة. 

ويعزو البعضُ عدمَ انتشار الاستشراق الروسي إلى صعوبةِ اللغة الروسيَّة؛ وهذا لا نراه إلا سبباً شكلياً أو ذرائعياً؛ فالتوجهات الغربيَّة كانت تتقاطع مع التوجهات الروسيَّة ثقافياً وسياسياً؛ لاسيما في العهد السوفييتي، لذلك كان الإقصاءُ الموجّه إليه حالةً متوقّعة؛ فضلاً عن أنَّ مِن المؤرخين والأدباءِ الروس مَن كانوا يصنّفونَ أنفسَهم شرقيين أكثر مِن كونهم أوروبيين.


 كثيرةٌ هي الكتب والبحوث التي حاولت تغطية تاريخ الاستشراق الروسي، ففضلاً عن كتاب سعدون الساموك آنف الذكر (الاستشراق الروسي) هناك بحثُ الأستاذ سهيل فرج الموسوم بـ(الاستشراق الروسي نشأته ومراحله التاريخيَّة)، بحث في هذا الاستشراق منذ ظهوره- بحسب ما يرى- وحتى ثورة أكتوبر 1917. 

ومن الباحثين الروس المستعرب غريغوري شرباتوف في كتابه (الاستعراب في الاتحاد السوفييتي)، تناول فيه تاريخ الاستشراق الروسي منذ ثورة أكتوبر فصاعداً. وربما يُعدُّ غريغوري المستعرب الروسي الوحيد الذي نظم الشعر بالعربيَّة، وله العديد من المقالات المنشورة في الصحافة العربيَّة، وله رسالة دكتوراه عن العلاقة بين اللغة العربيَّة الفصحى واللهجات العاميَّة في البلدان العربيَّة؛ صدر عن معهد شعوب آسيا؛ التابع لأكاديميَّة العلوم السوفيتيَّة. كما له قاموسٌ موجز روسي- عربي (1952).

 أمّا المستعربُ كراتشكوفسكي (كما يُسمي نفسَه) فقد بحثَ في بداياتِ هذا الاستشراق ورأى أنَّ العصرَ الجديد في تاريخ الاستعراب الروسي، يبدأ مِن المرسوم الجامعي عام 1804 الذي أدخلَ تدريسَ اللغات الشرقيَّة في المدارس العليا، وأمّا اللغات الشرقيَّة في أوروبا الغربيَّة فكانت المكانة الأولى فيها للغات السامية، أيْ العبريَّة والسريانيَّة، بينما اللغات الشرقيَّة في مفهوم الروس هي لغات الشرق الإسلامي؛ وأولها العربيَّة، وقد أُنشِئ قسمُ اللغة العربيَّة في جامعة خاركوف بعد صدور المرسوم في عام 1804م مباشرة. ومِن نافلةِ القول أن نذكرَ أنَّ أغلب المستشرقين الروس يرفضون كلمة مستشرق، ويفضلون كلمة مُستعرب. وهذا إشعارٌ بتخصّصهم في قضايا الشرق العربي وتمييزه من غيره.

 

 يُعدُّ تأسيسُ المتحف الآسيوي عام 1818م منعطفاً في تاريخ الاستشراق الأكاديمي الروسي، فالمتحفُ هذا مخزنٌ للنوادر والمخطوطات والوثائق، وكان المستشرقُ (فرين) أول أمينٍ له، ولجهودِه في تأسيس المتحف أثرٌ عظيم. والمدرسةُ الاستشراقيَّة الروسيَّة بحسب ما يرى د. أحمد سمايلوفيتش “ اختارت أن يكون ميدانُها الأكبر منطقةَ آسيا الوسطى، وما يتعلّق بحضارتِها القديمة والحديثة، وعلاقتهـا بالحضـارة البيزنطيَّة التي أسهمتْ في تكوين العقليَّة الروسيَّة”.

في كتابه “الاستشراق الروسي والعالم الإسلامي” يرى الأستاذ محمود الحمزة أنَّ الاستعراب الروسي ما لبث أن أخذ بتكوين نفسه معتمِداً على المصادر الشرقيَّة والإسلاميَّة مباشرةً. ويوضّح كيف كانت توجهاتُ المستعربين في المدرسة الاستعرابيَّة في القوقاز مختلفة، إذ كانوا يدرسون قضايا إسلاميَّة مثل الفقهِ وتاريخ الإسلام وحضارته. 

وبالعموم وبعد عام 1990 أصبح الباحثون الروس أكثر استقلاليَّة وحريَّة؛ على الرغم من افتقارهم إلى التمويل؛ لأنَّ الحكومةَ الروسيَّة تخلَّت عن دعمِهم تقريباً، لذلك دخل الاستعراب الروسي مرحلةَ ركودٍ؛ لكنه بقي يحمل أصالةً وعمقاً نوعياً لا يتوافر لدى الكثير مِن المدارس الاستشراقيَّة الأخرى. 

وهناك ميزةٌ أخرى للاستشراق الروسي في ما يخصُّ الأدب العربي؛ فهو لم يقتصرْ على دراسة الأدب العربي القديم، بل درس المستعربون الروس الأدبَ العربي الحديث؛ وترجموا كثيراً منه إلى لغتهم، وهذا جانبٌ أهملته التوجهاتُ الاستشراقيَّة الغربيَّة عن قصد؛ نظراً لنزعتها الاستعلائيَّة في الغالب.