عبد الغفار العطوي
ثمَّة مداخل لمعرفة ماهيَّة الفلسفة ووظيفة اشتغالها، أهمّها الشكّ والدهشة والتساؤل وتاريخ الفلسفة، وفي المقدمة يقف الشكّ في تاريخه الطويل كمحفز في تعلم الفلسفة وتعليمها بوصفها جدلاً في إبعاد الشكوكيَّة التي نمت مع الإنسان منذ القدم، حاله حال الإيمان في وعي حقيقة العالم من زيفه، ولا يعني أنَّ تلك الشكوكيَّة الفلسفيَّة هي أصل التفلسف، إنما أن تستخدم في تحري الشك في الدين وفي العلم، ولأنَّ الدين الأكثر عرضة للوقوع في مختلف التشكك فقد بدا أنَّ التعاون بين الفلاسفة كان جارياً وفق دراسة الآثار الناتجة عن وجود أنماط الشك مقابل سياق الإيمان، فمثلما هو الإيمان، يتخذ الشك كثيراً من الأشكال المتباينة، ضمن شكوكيَّة الأقدمين إلى التجريبيَّة العلميَّة الحديثة، ومن الشك بآلهة متعددة إلى الشك بإله واحد، وإلى شك يعيد بعث الإيمان ويحييه، وشك هو كفر لا ريب فيه، ويقف تاريخ الشك أمام تاريخ الفلسفة في سجال عنيف، باعتبارهما يشكلان طرفي معادلة في أساسها المعرفي والأخلاقي، سندرس في كتاب ( تاريخ الشك) من تأليف جنيفر مايكل هبكت (1) التشكك اليوناني باعتباره الأقرب إلى مجال الفلسفة، ويشكل الفصل الأول، وهو عبارة عن باكورة الصراع بين الفلسفة والدين، وتمتد أحداث ذاك الصراع إلى قرابة (600) عام قبل الميلاد حتى العام الأول للميلاد، وهي الحقبة الصاخبة في الشك الذي قدمته الفلسفة اليونانيَّة لتاريخ الشك عبر نقدها المنظومة الدينيَّة الأسطوريَّة في (ما الذي حدث بين زيوس– كبير الآلهة اليونانيَّة في الأساطير، وهيرا ملكة النساء والزواج عند الأساطير اليونانيَّة) ويوضح المؤلف في مقدمة الكتاب فكرتين حول كيف يمكننا فهم الشك في المجال الديني، عن أن تكون الفكرة الأولى قائمة على وجوب البحث على ما يبدو تصوراً فطرياً عما هو عادل، وهو يفسر لنا قول جون فيتزجيرالد كندي عن أنَّ الحياة جائرة تستثير الأمور التي لا تتسم بالعدل سخطنا، مع ذلك فالأدلة ضئيلة على وجود عدالة في العالم الموجود خارج روحنا، فالشك يبدأ شكاً وجودياً كونياً، قبل أن يتسرب بعدها لينتقل نحو مفاصل الحياة كلها في الجسد والروح الدينيين وبذلك يتم إدراك العلاقة بين رؤية الفلسفة للكون ورؤيَّة الدين للكون باختلاف واسع عريض، والفكرة الثانية يظهر من كونها متعلقة بالأولى على نحو تقريبي، المثال الذي يضربه الفيلسوف الوجودي الفرنسي جبريل مارسيل عن الفارق بين المشكلات والأحاجي، وأنَّ بالإمكان إيجاد حل للمشكلات بينما تكون الأحاجي ممتعة بغموضها، سنكون أكثر سعادة إذا نظرنا إلى الكون والوجود نفسهما بوصفهما أحجيتين، لكن الوقوف عند هذا الحد يزيد عالم الشك تعقيداً، ويفاقم من أنماط الشك، ويجعل حياتنا أكثر صعوبة، ما دمنا لم نستطع معرفة كيف تؤثر الفلسفة في إذكاء الشك أو إطفاء تأججه الساحر، في البحث عن الحقبة التي ظهر فيها الشك جلياً نلتقي بالعصر الكلاسيكي اليوناني، وينتهي بالعصر الهيلني المعروف بعواصفه الشكاكة التي انتهت بحقبة العصر الروماني التي ورثت سكون اليقين البدائي من العصر اليوناني القديم، من كونه شهد في بداياته أنموذج الآلهة الهادئة تماشياً مع نظام اليونان القديمة باعتبارها تمتلك نظاماً سكونياً وفي أوج ازدهار المدينة- الدولة بمجتمعها المتجانس والمدمج الغاية، ولها جمهور من الآلهة البدائيَّة، لم يتصور أحد أنَّ عاصفة ستهب عليها، وتقتلع جذور اليقين فيها، لتتحول تلك الآلهة إلى بيادق تتقافز في الشكوكيَّة الفلسفيَّة بعد ظهور الفلسفة في النصف الثاني من القرن السادس ما قبل الميلاد، والسبب يرجع إلى أنَّ المجتمع، كان ذا علاقة بدائيَّة مع أفكاره الدينيَّة، واتسم بموضوعه المركزي الهويَّة والسياسة والدين، وكانت هويته أكبر من الذات، وأكبر من الأسرة، لذا بقيت فكرة الشك راقدة في النظام المجتمعي الساكن، لأنها كانت تتوسط المسافة بين العالم الإنساني والكون، وبذلك منحت ملاذاً، إذا كان مصدر بلاء البشريَّة الوجودي، وهو حقيقة أننا نمتك إنسانيَّة ووعياً وإحساساً بالعدالة، لكن مشكلة العصر اليوناني تركز في ما يتعلق بفكرة الشك، في الأساس أنَّ الآلهة الأولمبيَّة لم تكن بعيدة عن الطبيعة البشريَّة، هي لم تخلق البشر، وكانت خالدة لكن خلودها ليس سرمدياً، امتازت بسمات بطوليَّة، لكن تعاملها مع بعضها البعض، أو مع البشر لم يكن مشرفاً، تسلطت على حياة البشر، وعلى البيئة، وهي تنقض عليهم بالصواعق في لحظات غضب غير مبررة، ومما جعل تلك الآلهة غير ذات فائدة، أنها تسكن فوق جبل الألمب، وتعيش على مقربة من الإنسان، وقدمت سبباً خارجياً في طرح التناقض في الإنسان ولا منطقيته، وكان الشاعران هوميروس وهزيود يمثلان بقصائدهما وقصصهما الحماسيَّة مجد الآلهة الأولمبيَّة التي كانت لها حياة مغلقة منعزلة، لكن بدأ الشك اليوناني يتسرب في المجتمع الساكن في التقابل بين المغامرات التاريخيَّة للآلهة في هذه القصص، والحروب التي سيق لها بسبب نزوات تلك الآلهة التي أجبرتهم على التخلي عن لذائذ الحياة، واستطاعت الفلسفة بدورها أن تعمل على تآكل المرتبة من الإيمان لصالح الشك، حينما توجهت الفلسفة اليونانيَّة بمرحلتها ما قبل السقراطيين،كطاليس وامبادوقليس وديمقراطيس، الفلاسفة الذين جاؤوا قبل سقراط وأفلاطون وأرسطو بما ميزهم من تفكير جديد، هو عبارة عن محاولة تفسير الكون بإمعان النظر مما كشف للناس خداع الآلهة اليونانيَّة القديمة التي لم تكن تفعل شيئاً، توجهت الفلسفة نحو هز قناعة الناس في منزلة الآلهة، وكان مولد الفلسفة بهذا المنحى بحد ذاته أحد منابت الشك، في تقويض الفكر الميثولوجي، وشيوع الفكر العقلاني والتجريبي، بما يعني أنَّ تطوير نظام التحقق فيما إذا كانت الفكرة أساساً خارج الإيمان يواصل هذا الضرب من ضروب التحقق تقييم الأفكار التي لها أساس قابل للإثبات، لقد تحول الشك اليوناني من شك بحقيقة سلوكيات الآلهة إلى مكانة تلك الآلهة في النظام الكوني، واستيقظت فكرة ألوهيَّة الإنسان كإحدى التصورات البديلة لبناء نظام كوزمو بوليتي يعوض حقيقة اللاأدريَّة في الكون نحو الغائيَّة في وجود الإنسان يتوسط الساحة الغامضة المكتظة بالشكوكيَّة التي تفصل بين جبروت الكون الزيوسي والمكرالبشري الجنسي الذي تمثله الملكة هيرا.
1 - تاريخ الشك جنيفر مايكل هبكت ترجمة عماد شيحة المركز القومي للترجمة القاهرة.