جودت جالي
إنَّ كتاب (مفكرة محرّمة) بوصفه رواية طُبعت لأول مرة سنة 1952 بقلم الإيطاليَّة ألبا دي سيسبيدس (1911-1997) كوبيَّة الأصل من والد دبلوماسي كوبي ورثت عنه وعن جدِّها الروح الثوريَّة ومن أمّ إيطاليَّة، وقد استقرت في إيطاليا بلداً لها وكانت معارضة لنظام موسوليني وتم حظر روايتين لها إحداهما بعنوان جريء هو (لا عودة إلى الوراء) وسُجنت مرتين ثم فرَّت من إيطاليا لتعود بعد الحرب. نشرت الرواية (قبل طبعها في كتاب) متسلسلة في مجلة وكانت تظهر حلقة في كلِّ عدد على شكل يوميات تواريخها متزامنة تقريباً مع صدور المجلة وحظيت بشعبيَّة ومتابعة واسعة، وهي في هذه الطبعة الحديثة مترجمة إلى الإنكليزيَّة. إنها يوميات (فاليريا) المرأة المتزوجة ولها ولد وبنت وكانت تشعر بالحرج من كتابة يومياتها وتخشى أن يعثر عليها أحد أفراد عائلتها فتُفتضح خصوصياتها التي أصبحت مع الوقت تغوص فيها أكثر فأكثر وتأخذ تأملاتها مديات أبعد.
في حين تنطلق (كلير بتيت) في مقالها بملحق التايمز الأدبي من منظور نسوي بوصف النص انعكاساً لأزمة وجود أنثوي وتؤكد على الجانب الجنسي لهذه الأزمة، فإنَّ الأميركيَّة جومبا لاهيري، القاصة والروائيَّة والناقدة والمترجمة عن الإيطاليَّة والكاتبة بها، لا تكون بهذه المباشرة والتخصيص إذ تبدأ في مقدمتها للكتاب من إيتمولوجيا العنوان (الإيتمولوجيا دراسة أصل الكلمة وتاريخها) بتحديد الفرق في المعنى بين ترجمة المفردة الإيطاليَّة حرفياً بمعنى prohibited ) محرمة، محظورة) وهو الأقرب للعنوان الإيطالي غير أنها ذات دلالة تقييديَّة شرعيَّة وقانونيَّة بعكس المفردة forbidden الموجودة في الترجمة للعنوان ذات المحمول العاطفي إذ عادة ما يقال مثلاً (forbidden love) الحب المحرم. تنتقل جومبا إلى الدلالة الوجوديَّة باعتبار كتابة اليوميات أكثر أشكال الكتابة خصوصيَّة وحميميَّة وتتضاعف وتتعمق هاتان الصفتان إذا أخذنا في الحسبان أنَّ الكاتب امرأة، ومع أنَّ “امتلاك مفكرة يلقيها في أزمة فإنَّ هذه المفكرة هي أداة ومكان في الوقت نفسه، ممارسة أدبيَّة وغرفة تخصها وحدها” وما فيها “حوارات مع الذات”.
نعم توجد أزمة (أنثى) ولكنها في رواية تضع هذه الأزمة ضمن ظروف تاريخيَّة واجتماعيَّة وطبقيَّة تعيشها عائلة بعد الحرب وفي بلد خرب، بالإضافة إلى خصوصيَّة النصِّ الإبداعيَّة وأهميته كتحفة فنيَّة، ولا يكتسب أهميته فقط من تصويره لمشاعر استلطاف فاليريا لربِّ العمل، استلطافاً يُشعرها بالإثم، أو التحوط عندما تنام وزوجها ليلاً من إصدار أصوات ومن أن يفعلا ما يريدان أن يفعلاه على راحتهما.
تقول المترجمة (آن غولدستين) في تقديمها الموجز للرواية بأنه في زمن أحداث الرواية، وهو زمن كتابتها أيضاً، “كانت إيطاليا لا تزال تتعافى من دمار الحرب العالميَّة الثانية والسنوات العشرين لحكم موسوليني”، وعائلة فاليريا ككل العائلات المتواضعة ليست في وضع مالي مريح بعكس عائلات الجيل السابق وتكافح لتدبير أمورها، وتستطرق المترجمة لتذكر غزو جيش موسوليني للحبشة ثم إخراجه منها من قبل الجيش البريطاني وآثار هذا الصراع في أسعار المواد الغذائيَّة وحياة الأسر، (وهذه أحوال كلنا نتفق على أنها لا تدمر الأنوثة فقط بل والرجولة أيضاً).
لقد تناولت (جمانة خطيب) في (ذي نيويورك تايمز بوك ريفيو) الرواية وأعطت باقتباساتها للجوانب التاريخيَّة والاجتماعيَّة والفنيَّة حقها من الاهتمام، كما بينت بالإضافة إلى المعلومات الأوليَّة التي ذكرناها، أنَّ دي سيسبيدس بمفكرتها المحرمة التي كانت تنشرها على حلقات كانت في الجوهر تكتب عمود نصائح للقراء تحركهم به نحو “أخلاقيَّة حديثة أكثر علمانيَّة، أخلاقيَّة تؤكد مساواة المرأة مع الرجل” مع مناقشة مسائل في الزواج والخيانة والحب وتأملات في الفنّ والفلسفة.
نعم، إلى جانب هذا توجد المرأة بخصوصياتها طبعاً. إنَّ المفكرة التي تصورتها فاليريا في البداية مجرد دفتر أنيق تسجّل فيه خواطر بسيطة بريئة عن حياتها اليوميَّة الشخصيَّة والعائليَّة، صارت من الخطورة بحيث تستوجب الإخفاء فتكتشف بمحاولة التخفي أنها لا تمتلك مكاناً تحفظ فيه خصوصيات كهذه في حين أنَّ ابنتها تمتلك خزانة تحفظ فيها أشياءها في الأقل، فتُخفي مفكرتها في كيس فضلات مرة ومرة في صندوق ثياب قديم أو علبة كارتون. إنها في المفكرة فاليريا وليست “ماما” زوجها وابنها وابنتها، وليست هي “بيبي” أبويها وقد تجاوزت الأربعين. لكنها أيضاً ليست المرأة- الأنثى التي عند بعض الكاتبات كالحائزة نوبل آني آرنو، امرأة مهووسة بالجنس وبالأعضاء التناسليَّة للرجل والمرأة ولا شيء أهم منها عندها. صحيح أنَّ امرأة دي سيسبيدس تنوء بالمسؤوليات العائليَّة والاجتماعيَّة ولكنها لا تفكر في التنصل من واجباتها بل تفكر في كينونتها الأنثويَّة وسط هذه المسؤوليات نحو حياة إنسانيَّة أفضل.
نشرت ناتاليا جينزبورغ سنة 1948 مقالاً (عن النساء) تتساءل فيه هل يمكن للمرأة بميلها الفطري للكآبة واليأس أن تُنجز حريَّة حقيقيَّة، فكتبت لها دي سيسبيدس رسالة تقول فيها “أنا أيضاً مثلك ومثل كل النساء، لدي تجربة هائلة وقديمة مع الآبار، غالباً ما أسقط فيها ويكون سقوطي تحطماً، ولكني بخلافكن أرى أنَّ هذه الآبار هي قوتنا، لأننا عندما نسقط فيها فإننا ننزل إلى أعمق جذور كياننا الإنساني، وبعودتنا إلى فوق نحمل في داخلنا أنواع التجارب التي تسمح لنا بفهم كلِّ شيء لن يفهمه أبداً الرجال الذين لم يسقطوا في البئر”. يمكننا أن نقول إنَّ مفكرة فاليريا هي السقوط في البئر الذي خرجت منه أقوى وأكثر فهماً لنفسها ولما حولها.
Forbidden notebook, Alba De Céspedes. 256 pp