محمد جبير
يكمن سحر السرد في جملة الابتداء، وعلاقة هذه الجملة بمجريات الأحداث العامّة للحكاية السردية المركزية، وعلاقتها أو تفاعلها مع الحكايات المحيطة التي تنير جوانب من تلك الحكاية، وتشكّل هذه الجملة المفتاح الرئيس لما سيأتي من تفاصيل قد ترتبط بجملة الابتداء، أو تضيف طبقات قشرية تغلّف نواة الحكاية بحكايات مضافة، هذه الجملة الافتتاحية ترتبط ارتباطًا سببيًا بجملة الختام السردي، وتضيء عتبة النصّ أيضًا.
ما تقدّم هو من بديهيات الاشتراطات السردية في الكتابة، التي قد يدركها الكاتب الهاوي أو المحترف الذي يشغل نفسه في التفكير بولادة هذه الجملة، لكن هل تكون تلك الولادة في أغلب الأوقات ولادة طبيعة تجذب المتلقّي؟ أو ولادة قيصرية تطرده؟.
في نيسان 1959 انتهى جورج أمادو الكاتب البرازيلي من كتابة روايته القصيرة “ كونكان العوام يحضر مأتم دفنه “، وتُرجِمت مرّة ثانية تحت عنوان “ميتتان لرجل واحد”، وأنا هنا لا أريد أن أتحدّث عن الترجمة، وإنّما عن العتبة وجملتَي الابتداء والختام في هذا.
يفتتح أمادو هذا النصّ بالشكل الآتي “إلى حدٍّ هذا اليوم والغموض يلفّ حكاية موت كينكاس هدير الماء شكوك كثيرة لا تزال تنتظر تفسيرًا، تفاصيل سخيفة وتضارب في أقوال الشهود، وثغرات متعددة في الحكاية لا تزال كلّها في حاجة إلى تفسير، لا شيء يبدو واضحًا، لا الزمان، ولا المكان، ولا الكلمات الأخيرة التي قال”. “ميتتان لرجل واحد/ ترجمة عبد الجليل العربي/ ص19”.
ثلاثة أرباع القرن مضت على هذا النصّ، تغيّرت مناهج ونظريات في السرد واللسانيات والخطاب والمناهج النقدية الحديثة، وبقي هذا النصّ محافظًا على أدبيته منذ لحظة الولادة حتى يومنا هذا “ حزيران 2023”، ما السرّ في جاذبية هذا النصّ؟ وماذا نستشف من جملة الابتداء هذه؟.
أولًا : نرى في جملة الابتداء هذه أنّ زمن التلقّي مفتوح “إلى حدّ هذا اليوم”.
ثانيًا: الحكاية فيها غموض.
ثالثًا: موت هدير الماء.
رابعًا: شكوك تنتظر التفسير.
خامسًا: تضارب في أقوال الشهود.
سادسًا: ثغرات متعدّدة في الحكاية.
سابعا: الكلمات الأخيرة التي نطق بها العوّام.
منذ البداية منح أمادو للزمن سيولته التي لا يمكن لها أن تحدّد زمن تلقّيها، على الرغم من الفاصلة الزمنية بين كتابة النصّ وتلقّيه، وشكل لعناصر الجذب لهذه الحكاية عدة مستويات قدمها بتدريج سرد محفِّزًا المتلقّي على مواصلة فعل القراءة لاكتشاف الثغرات في الحكاية، وسدّ تلك الثغرات بتفاصيل سابقة، أو ما سيأتي لاحقًا من تفاصيل تأتي على ألسنة الشهود، وهي كلّها حكايات محيطة بلحظة موت العوام، أو هكذا ظنّ بعض الشهود، بمعنى آخر أنّ صانع الحكاية السردية قدّم حكايات متضاربة ومتناقضة بغية الوصول إلى الحقيقة، لكن أين تكمن الحقيقة في هذه الحكايات المتضاربة؟.
تكمن الحقيقة في الكلمات الأخيرة، وهذا ما أشار إليه الكاتب في جملة الابتداء، ما هذه الكلمات؟ إنّها الآتي “سأدفن كما أشتهي، في الساعة التي أشتهي، يمكنكم أن تحفظوا تابوتكم إذن لميتة جديدة وميت جديد، أمّا أنا فلن أترك أحدًا يحبسني”. “الرواية/ ص103”.
هذه صناعة لسارد ماهر محترف، والصنعة صنعة في أمريكا الجنوبية أو الشمالية، أو أوروبا أو أفريقيا أو آسيا، في البرازيل، أو جنوب أفريقيا أو العراق، فجماليات الإبداع السردي هي هي عند جميع الكُتّاب في مختلف البلدان، وتختلف المهارات بين كاتب وآخر، ولا عذر من لا يفهم حرفيات صنعته الإبداعية.
قد يعترض أحد “الكُتَباء”، ويقول: إنّ أمادو كاتب روائي كبير، سأترك هذا المثال، وأذهب إلى مثال كاتب عراقي من الكتاب الجدد، ألا وهو “حسن فالح”، ونصّه السردي “ شوبان الصدرية”، يفتتح الكاتب نصّه بجملة الحوار الافتتاحية هذه:
“- عاشور اشترى بيانو!
- صحيح عاشور اشترى بيانو؟
- نعم، عاشور اشترى بيانو!”. “حسن فالح /شوبان الصدرية / ط2- دار نصوص/ ص7”.
مفتتح حواري في جملته الأولى تعجّب، وفي الثانية تساؤل، وفي الثالثة تأكيد وتعجب في آن واحد، هذا المفتتح يفتح شهية المتلقّي للذهاب إلى تفاصيل الحكاية، لا سيما أنّ تظهير النصّ يشير إلى عاشور وعشقه للبيانو، وتجتمع خيوط الحكايات الثانوية التي تضيء جوانب تفصيلية تأخذ بالحدث المركزي وصولًا إلى ذروته النهائية، وهي من مهارات الكاتب وتمكّنه من سرد حكايته السردية”. سار شوبان الصدرية بخطوات ثابتة غير مرتبكة ولا قلقة، متخيلًا نفسه متوجّهًا إلى مسرح كبير، السماء والبنايات ونهر دجلة هم الحضور الذين يتوقون لسماع مقطوعته التي سيعزفها، وعند وصوله إلى البيانو، نظر إلى رفيقه الضخم، وبادله الابتسامة وهو يسحب الكرسي، ويطلب منه الجلوس”، ويسترسل: “في رأيك، من هو مؤلف الموسيقى الوطنية؟ هل هو عاشور أم شوبان الصدرية؟”. “الرواية/ ص159”.
السؤال هنا: كم رواية بُنيت على جملة الابتداء وارتبطت بجملة الختام، لا توجد إحصائية لذلك، ولكنّ الجواب متروك للمتلقّي، ولا عذر لمن لا يدرك قيمة وأهمية هاتين الجملتين في النصّ السردي.