اهتم تودوروف بتلك الدرجة من التخييل التي لا تتحدد بمستوى الاحتمال بين ما هو ممكن ومسموح في علاقة البطل بقوانين الطبيعة. وعد العجيب وسيلة أسلوبية (ترميزية) تتحقق بها غائية السرد الواقعي. ولأن تودوروف منظّر بنيوي قبل أن يكون منظّرا ما بعد بنيوي، فرّق بين التخييل في السرد والتخييل في الشعر الذي يكون فيه وضع (العجيب والغريب والخارق) معكوسا، فالقارئ يمكنه في قراءة الشعر أن يقرر أن قوانين الواقع تظل غير محتملة وتسمح بتفسير الظواهر الموصوفة ويمكن أن تكون الطبيعة مفسَرة من خلالها بالعجيب أو الغريب الخارق الذي يحيا حياة ملؤها المخاطر وهو معرَّض للتلاشي في كل لحظة.
وبحسب تودوروف فإن ما يصلح في الشعر من عجائبية لا يصلح في السرد، لأن قارئ القصيدة ليس كقارئ القصة، فهو في الأولى غير متحير وفي الثانية متحير إزاء قصة مثل القلندري الثاني والثالث وغراميات قمر الزمان.. ولكننا نرى أن ما في هذه القصص الدخيلة من كائنات غير طبيعية هو المقصود بعينه وليس مجرد وسائل تصنع العجيب.
وهو ما يتضح أيضا في السرد العربي القديم غير الدخيل، غير أن تودوروف انتقل فجأة من القص الدخيل إلى قصص غربية فمثّل بنرفال وغوته وهوفمان وقصته الأميرة برامبيلا وبلزاك وروايته (لويس لامبرت) وكافكا وروايته (المسخ)، وأكد أن عناصر العجيب تمتلكها (الأوديسة والديكامرون ودون كيخوته .. بدرجات مختلفة، وهي في الوقت نفسه أعظم قصص الماضي، وفي العصر الحديث لا يختلف الأمر، فالساردون بلزاك وهوغو وفلوبير وموباسان هم الذين يكتبون حكايات عجائبية).
وبناء على منهجيته البنيوية والشعرية حصر التخييل في السرد الواقعي الذي يقصد منه إعادة صنع الواقع وليس صنع واقع جديد، بينما التخييل أوسع من أن ينحصر في ما هو واقعي وإنما يتعداه إلى اللاواقعي أو اللامعقول الذي فيه التعجب حاصل لكن أقواله تتعدى التعجب إلى الاستحالة فتجعل منه لغزاً يحتاج إلى نظر، ومن ذلك ما نجده في هذا المقطع من المقامة القهقرية للحريري ( قال: أتعرفون رسالة أرضها سماؤها؟ نسجت على منوالين وتجلت في لونين وصلت إلى جهتين وبدت ذات وجهين إن بزغت من مشرقها فناهيك برونقها وإن طلعت من مغربها فيا لعجيبها، قال: فكأن القوم رموا بالصمات أو حقت عليهم كلهم كلمة الإنصات .. فحين رآهم بكما كالأنعام وصموتا كالأصنام قال لهم: قد أجلتكم أجل العدة.. فقالوا له: والله ما لنا في لجة هذا البحر مسبح ولا في ساحله مسرح)، فالتخييل غير محصور في حدود العجيب الغريب كأوصاف وأفعال.
ولقد تلقى نقاد سردنا القديم عجائبية تودوروف بكثير من الاهتمام، وقبل ذلك كانت بنيويته أيضا مثار اهتمامهم. ولكن ذلك كله لم يحفزهم ـــ بسبب اتباعية الناقد العربي للنقد الغربي وارتكانه التام إلى مفاهيمه وطروحاته ـــ على تمحيص ما في سردنا القديم من تمثيلات ونماذج لم يُلتفت إليها بعد، بل العكس جُزئت وقُللت فاعلية الفكر السردي فيها فكان (التفكير فيها والنظر إليها منذ عصر النهضة إلى الآن يقوم على التجزئة والاختزال في آداب رسمية وشعبية وعامة وخاصة يصعب على الباحث أن يلم بقضايا خارج مجال بحثه وهذا التصور لا يعكس سوى المواقف المختلفة والمتباينة).
ونرى من الضروري عدم الركون إلى المنهجية البنيوية وحدها ولا الاستسلام للدراسة الثقافية، وإنما دمجهما بمنهج واحد ينفتح بالثقافية من حيث ينغلق بالبنيوية. وعندها لن يكون العجائبي هو الوحيد الذي فيه نحقق الاتصال بوعي تعكسه الحكايات والأخبار التي تزخر بها كتب العجائب.
إن تجديد الفكر في النظر إلى التخييل وفهم الخرافة على أنها عنصر فاعل في القص والحكي يعني أن لسردنا القديم مواضعاته التي أساسها التخييل أو الخيالية بمفهوم براين ريتشاردسون، والتي هي موئل اللاواقعية موضوعا ومبتغى على اختلاف تنويعات هذا السرد وأنماطه. ومن الإجحاف اختصار تراثنا السردي القديم بكل ما فيه من مؤلفات ومصنفات في حدود العجيب وحده. فسردنا القديم أوسع من ذلك بكثير وفيه تلعب الخيالية دورا مركزيا لاسيما في اشتطاط التخييل عن المحاكاة، وتجاوزه إياها إلى اللامحاكاة.
وكلما توغلنا في السرد العربي قديما، كانت الخيالية أقوى من مجرد العجائبية في مختلف مظان المصنفات العربية كسيرة أو لغة أو تفاسير قرآنية وسير نبوية ومرويات شعبية وكتب تاريخ وكرامات صوفية ومتخيلات شعبية ونصوص رحلات وجغرافيا ومنامات وغيرها من المصادر الأدبية التي لا تكبح جماح الخيالية وفي الآن نفسه تبتغي رؤى عقلانية.