د. بشار عليوي
«شكلت الحداثة في طور تكوّنها ونشأتها انـزياحات متعددة في الفلسفة والفكر واعتماد العقل والذات وتكوين رؤية جديدة للإنسان وعلاقته بالطبيعة والعالم المحيط والسعي الدؤوب من أجل تفكيك أسرار الكون وامتلاك ناصية العلم والمعرفة في مجالات الحياة كافة، وسارت بالإنسانيَّة نحو آفاق متجددة من الرفاهية المتحققة بفعل قوة التقنية والاكتشافات والابتكارات العلمية التي مهّدت ويسّرت السبل الكفيلة باعتماد التكنولوجيا والآلات بشكل أساس وفاعل في السيطرة على نظم الإنتاج والصناعة والعمل والتسويق والانفتاح على الآخر، ولم يكن قطاع الفنون بمعزل عن هذه المتغيرات الجذريَّة المهمة في مسيرة العالم لا سيما الفنون المسرحية».. بهذه الكلمات يفتتح المؤلف د. جبار جودي العُبودي كتابه الموسوم «جماليات الحداثة - التقنيات والفكر والخيال في المسرح»، والصادر حديثاً ضمن عن الهيئة العربية للمسرح بالشارقة، سلسلة دراسات رقم 89 والذي يقع في 217 صفحة بالحجم الوزيري. إذ يتناول المؤلف في الفصل الأول من الكتاب مساهمة الحداثة في تطوير المرتكزات الجماليَّة في بنية التقنيات المسرحية على مستوى الفكر والإمكانات العلمية ومدى مساهمة عملية التحديث التكنولوجي في تطوير العمل الفني في المسرح، وتسليط الضوء على مفهوم الحداثة التي ما تزال محور النقاشات الفكرية السائدة في العالم، كما اشتمل الفصل الثاني من الكتاب على موضوع فلسفة الحداثة الأسس والمفاهيم منذ عصر التنوير إلى الوقت الحالي. في ما اختصَّ الفصل الثالث منه بموضوع الجمالية والتقنية والتكنولوجيا وتسليط الضوء على هذه المفاهيم الثلاثة وعلاقتها بالتقنيات المسرحيَّة.
وفي الفصل الرابع تناول العُبودي التجارب الجمالية في تقنيات المسرح الحديث وعمل المصممين والمخرجين الأوائل من الرواد الى نهاية الألفية الثانية في تكوين صياغات أعمالهم الفنية من الناحية التقنية والتكنولوجية، أما الفصل الخامس فقد تمَّ فيه إفراد حيز لجماليات الحداثة في تقنيات المسرح المعاصر التي استخدمها كل من المخرج روبرت ويلسون والمخرج روبرت ليباج والمخـرج فيليب جانتي، إذ درسَ الكتاب جماليات الحداثة المسرحية في نماذج منتخبة من المسرح العالمي، وهي عرض سونيتات شكسبير لروبرت ويلسون وعرض الطوطم لروبرت ليباج، وعرض «مسافرون بلا حراك» لفيليب جانتي، ليصل المؤلف الى خلاصة مفادها أن جماليات الحداثة في العرض المسرحي تخترق مجمل الأنماط المألوفة والتقليدية وتبتعد عنها نحو تشكيل رؤية مستقبلية تأخذ التقنيات فيها مساحة متجددة في الزمان والمكان، فهي ليست نسقاً ثابتاً أو سياقاً تاريخياً مستقراً. كما أن جماليات الحداثة في تقنيات العرض المسرحي تمتلك دافعية وديمومة مستمرة في تحقيق غاياتها عبر تجاوزها لحدود الثقافات والجغرافية والبيئات لتقوم على أساس فكرة التقدم وقوة العلم والمعرفة وإعمال الفكر النقدي، وتُعَد الحداثة في تقنيات العرض المسرحي رهان جمالي من أجل إثارة دهشة المتلقي إذ تشكّل حتمية الحداثة القوة المحفزة لتحقيق فعل التواصل بين ما هو حاضر ومقنّن وبين ما هو غائب ومتخَيَّل، كما أن هذه جماليات تفتح أفقاً جديدة للتوقّع عند المتلقي من خلال قدرتها على اقتراح رؤى لم يتم تحديد معناها بعد، تنطلق من أفق الخيال المنتج للجماليات الفنيَّة القادرة على انتاج المعنى عبر منطلقات تتشكّل في تقنية متجددة خلال العرض المسرحي، فيما تضفي مخيّلة الفنان طابعاً ذاتياً على جماليات الحداثة في تقنيات العرض المسرحي عبر الثنائي التقليدي الشكل والمضمون. أما التكنولوجيا فتُحقّق خيالات ورؤى فنيَّة يسعى اليها كل من المخرج والسينوغراف عبر عمليات تنفيذيَّة أدائيَّة آلــيَّة يتـــــــم عن طريقها تشكيل البُعـــــد الجمالي الذي يشترك فيه خيال الفــــــنان ورؤاه في توظيف الممكنات التكنولوجية التي تعزز من غنى عوالم الحداثة وجمالياتها في العرض المسرحي. وعن أهمية هذا الكتاب كتبَ المخرج المسرحي د. صلاح القصب أن «جماليات الحداثة.. التقنيات والفكر والخيال في المسرح، مشروع لدراسة فيزياكمية للمعماري السينوغرافي د. جبار جودي، فجمالية العرض عند جودي فضاء معماري مركب تشتغل معادلاته بدقة متناهية ومؤلفة من قيم جمالية لمعايير لا يمكن الوصول الى جوهرها السري، لذا فإنّ المعادل الكمي الذي اشتغلت عليه نظرية د. جبار جودي لتكنولوجيا المسرح، هو وجود متعالٍ يتحرك في رسم فضاءات لمعادلات عرض فيزياصوري سحري من خلال حركة الموجة البصريَّة للطاقة وتجربته التشكيليَّة (سجادة حمراء) هي العرض التطبيقي الأرقى لهذه المعادلات البصريَّة السحريَّة، وهي ترددات بصريَّة موجيَّة متواصلة داخل محيط تبادلي لا نهائي للمكون الصوري للعرض. إنَّ المكون الكمي الذي اشتغلت عليه نظرية د. جودي انطلقت من نظرية الحقول وهي نظرية مركبة من نظرية الحقول الموجبة ونظرية الكم، وتركز على تفسير حزمات الضوء واشتغالاتها التقنية الكترونياً في العرض من خلال الكمات وتحديد العلاقة ما بين الرؤيا لمكونات العرض المسرحي وفيزياء البصر وبين الطاقة وكمات التردد الصوري، كما في تجربته المعمارية في عرضي خيانة وحصان الدم.