قراءة في فاعلية النظام السياسي الإقليمي العربي

قضايا عربية ودولية 2023/07/06
...

• جواد علي كسار

ما يجري في السودان وليبيا واليمن، مضافاً إلى لبنان وسوريا وفلسطين؛ يطرح مجدداً وعلى نحو جذري وعميق، السؤال التقليدي عن فاعلية النظام السياسي العربي، من حيث قابلياته العملية على التدخل بهذه الأزمات، ومدى قدرته على المساهمة بحلها فعلياً أو إيجاد الحلول لها، كما غيرها من الملفات الكبرى في العالم العربي، ما يعني أن النظام نفسه بات في دائرة التساؤل عن جدواه، والأخطر من ذلك هو الشك في أصل وجوده.
المقال الذي بين أيدينا يجازف بتقديم قراءة اجتهادية تقرّ ليس فقط بوجود هذا النظام، بل وبمقدرته على تقديم الحلول رغم الإخفاقات البادية في جغرافية القارّة العربية، وما أكثرها.

السلبية الجارفة
اعترف أنها مجازفة كبيرة أن يتحدّث المرء في ظلّ الجغرافية العربية الآن، عن النظام السياسي كإطار موحّد للإقليم العربي؛ إذ تكفي في دحض هذا الإطار أي أزمة من أزمات الحاضر، فضلاً عن سجل ثمانية عقود من المشكلات والملفات الشائكة التي تراكمت في العالم العربي منذ عام 1945م حتى اللحظة.
يكفي أصحاب هذا الاتجاه في التفكير، ما يجري في السودان وحده منذ نهاية شهر رمضان حتى الآن من اقتتال وتدمير ذاتي للبلد، ابتلعت تداعياته أو كادت البُنية العمرانية في السودان، على ضعفها وهشاشتها، وقد حصل ذلك كله ولم يزل بأيدٍ سودانية داخلية، وليس بفعل الاستعمار والاستكبار والإمبريالية والصهيونية وما شابه ذلك، من دون أن يعني هذا بتاتاً نفي المؤثرات الإقليمية وحتى الدولية، بما يجري؛ إذ يحصل ذلك كله وسط عجز متزايد للنظام السياسي العربي وواجهاته المؤسّسية وبؤره المؤثرة، في وضع حدّ لمشكلة الاقتتال الداخلي في السودان.
فكيف إذا أضفنا للسودان ما يجري في ليبيا منذ عقد وفي اليمن منذ بضع سنوات، رغم التسكين النسبي في أزمة البلدين؛ بالإضافة إلى الأزمات الجاهرة والمستترة في سوريا ولبنان وفلسطين وغيرها من بلدان الجغرافية العربية. بهذا وبغيره يحتجّ المناوئون للنظام السياسي العربي، وإليه يستندون في نفي وجود مثل هذا الإطار التوحيدي أو الطعن بجدواه، وأنه وإن وجد فقد استقال وخرج من الخدمة، ولا ريب أن حجتهم ناهضة يصعب دحضها، ما يضع المؤيدين في موقع حرج.

الإطار المفهومي
لكي نعبر التعقيد التنظيري الذي يحيط مصطلح النظام السياسي الإقليمي العربي، وهو يدخل أحياناً في دائرة الجدل، نكتفي بالإحالة إلى التحديدات النظرية التي قدّمها بعض من أساطين الأكاديمية العربية في المادّة والتعريف ومناهج البحث، كما فعل مثلاً إسماعيل صبري مقلد وحامد ربيع وملحم قربان وغسان سلامة ولاسيّما الأوّل والثاني، وثمّ غيرهم أيضاً.
خلاصة ما انتهى إليه هؤلاء الأكاديميون والمنظرون، أن النظام الإقليمي يرتكز إلى وحدة الجغرافيا، وأن تدخل في تكوينه ثلاث دول على الأقلّ، ويتمّ التفاعل بين وحداته أو دوله انطلاقاً من خصائص مشتركة، تأتي في طليعتها اللغة والانتماء والميل الديني والثقافي العام، كما تتصدرها مصالح اقتصادية وستراتيجية مشتركة، وقد يجعل البعض من التحدّيات الوجودية والمصيرية عنصراً مضافاً أو معزّزاً للنظام الإقليمي (يُنظر على سبيل المثال: الستراتيجية والسياسة الدولية: المفاهيم والحقائق الأساسية. أيضاً: العلاقات السياسية والدولية: دراسة في الأصول والنظريات، وكلاهما من تأليف إسماعيل صبري مقلد).
لا ريب أن هذه العناصر المحقّقة لوجود النظام الإقليمي وحدوثه، تنطبق بنحوٍ طبيعي يسر على العالم العربي، بل تعطيه مزايا متفوّقة أو مساوية لنماذج مماثلة من النظم الإقليمية يمتلئ بها العالم، ربما كان في طليعتها الاتحاد الأوروبي، وآسيان، ووحدات النظم الإقليمية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا.
أفضل محاولة تأسيسية
في حدود المتابعة الشخصية وضمن منهج الاستقراء الناقص، لم أجد محاولة عن النظام الإقليمي العربي، أفضل من تلك التي قدّمها جميل مطر وعلي الدين هلال، صدرت في الشهر الأخير من عام 1979م (النظام الإقليمي العربي: دراسة في العلاقات السياسية العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 217 صفحة من الحجم الكبير).
فبحسب متابعتي لم يسبق هذه الدراسة ولم يلحقها، ما هو أفضل منها في تحديد المصطلح وتعريف النظام الإقليمي العربي، وبيان عناصره التكوينية وخصائصه، ومحدّدات نشوئه ومراحل تطوّره، ووضع اليد على أطره التنظيمية ومؤسّساته، ومتابعة عوامل التغيير والاستمرار بداخله، مع ما واجهه من تحدّيات.
لقد جاء ذلك كله في نسيج متكامل انصهرت بداخله المنهجية الأكاديمية مع الخبرة السياسية العملية، وقد عضدتهما لغة واضحة عميقة لكنها يسيرة خالية من التعقيد، تعزّز فيها الدليل والبرهان بالوثائق والأرقام.

بين الاعتبار والحقيقة
يأخذ الدارسون للنظام الإقليمي العربي بالمفهوم الافتراضي الدراسي لهذا النظام، ما يعني أنه تعبير اعتباري ليس له وجود خارجي في نفسه كبقية الاعتبارات. على سبيل المثال نقرأ لأحد الدارسين الجادين، قوله: “النظام (الدولي أو العربي) هو مفهوم افتراضي، بمعنى أنه لا يُشير إلى شيء أو وجود مادّي وإنما إلى وجود مستتر”، (مستقبل النظام العربي بعد أزمة الخليج، د. محمد السيد سعيد، ص 14).
بغض النظر عمّا يُحيل إليه مصطلح الاعتباري من جدل في المنطق والفلسفة، فإن المفهوم حينما نتحدّث به على مستوى النظام الإقليمي العربي، إنما يُعبّر عن واقع له وجوده المادّي في الخارج، ومن دون هذا الوجود لا يمكن أن ينتزع العقل هذا المفهوم؛ والواقع الخارجي المقصود يبدأ من الجغرافية العربية بوحداتها السياسية التي تمثلها الدول العربية، إلى بقية الخصائص والمكوّنات، على النحو الذي إذا اختفى فيه هذا الواقع الخارجي، يغيب المفهوم ولم يعد له وجود يُذكر. بهذا المعنى ليس النظام الإقليمي العربي مفهوماً افتراضياً دراسياً صرفاً، يلد في أذهان الدارسين ويختفي باختفائه من أذهانهم، بل هو يعكس درجة من درجات الوجود، مرتبط بوجود أعمق منه، يقوى بقوّته ويضعف بضعفه، ومن ثمّ لا يمكن التفلّت منه ببساطة أو الحديث عن تلاشيه واختفائه، مع أول مشكلة أو صدمة وأزمة.

النشأة والمراحل
على هذا الأساس أيضاً نختلف مع تلك الافتراضات التي أرّخت لنشأة هذا النظام ومراحله، بداية اتفقت على عام 1945م، واختلفت بعد ذلك في التحقيب. فمحاولة جميل مطر وعلي الدين هلال، وضعت أربع مراحل لهذا النظام؛ الأولى: 1945 - 1952م معها فترة انتقالية، هي: 1952 - 1955م، الثانية: 1955 - 1961م، الثالثة: 1961 - 1967م، الرابعة: ما بعد عام 1967م (النظام الإقليمي العربي، ص 58 - 59). كما نقرأ في محاولة أخرى ذكرها محمد السيد سعيد تموضعت في مراحلٍ ثلاث، هي النشأة: 1945 - 1967م، وصعود النظام: 1967 - 1977م، ومرحلة الأزمة من عام 1977م فما بعد (مستقبل النظام العربي، ص 30).
وجه الاختلاف مع هذا التحقيب وما يشابهه، ينصرف إلى اعتراضنا على تحديد نشأة النظام العربي وولادته بعام 1945م، أي ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. فما نذهب إليه ويؤيده الواقع العملي وتسنده دلالات الأطر التنظيرية، أن النظام الإقليمي السياسي العربي ولد بُعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى، تحديداً بعد هزيمة السلطنة العثمانية وانهيارها، والتقاء نتائج فوز الحلفاء الأوروبيين مع تبعات هزيمة آخر كيان سياسي كان يضمّ البلاد العربية إلى السلطنة العثمانية ولو شكلياً، كما تبلور ذلك على الأرض في خرائط سايكس - بيكو، التي وضع بصماتها السرية مندوبا المنتصران الكبيران (بريطانيا وفرنسا) في القاهرة عام 1915م، وأخذت مظاهرها الأولى تتموضع على الأرض عام 1916م فما بعد.
النظام الحالي أو المظاهر التي نعيشها في أغلب الدول العربية، إن لم يكن فيها جميعاً إلا النادر الشاذّ، هي سليلة تلك البدايات القصيّة، والرواسب المتبقية من تلك المرحلة، من دون أن يعني ذلك قط الوقوع في الرؤية السكونية الجامدة أو التورّط باللاتأريخية، فنحن نقرّ أن تحوّلات جمّة لا حصر لها قد حصلت في العالم العربي على مدار قرن وأكثر، طالت السياسة والاقتصاد، كما الثقافة والمجتمع، وألقت بظلالها على المعيشة والحياة، وعلى العلاقات البينية والإقليمية والدولية للعرب مع أنفسهم والآخرين، بيدَ أن ذلك كله قد حصل في ظلّ بُنى ثابتة برعت في إعادة إنتاج نفسها على الدوام، لكي تبقى أمينة لثوابت التأسيس.

قوى البناء والهدم
بمراجعة أبرز تنظيرات النظام العربي نجد شبه إجماعها، على أن قوى هذا النظام ودوله واجهت تحدّيات إقليمية من أربع دول، هي “إسرائيل” وتركيا وإيران وإثيوبيا، كما واجهت أيضاً القوّتين الأعظم وحلفائها الأوروبيين، في صراع النفوذ الذي احتدم بينهما في المنطقة. بيدَ أن الأهمّ من ذلك هي المزالق الداخلية الحادّة في الجغرافية الطبيعية والسياسية للنظام وبين دوله، وما أدّت إليه من هشاشة، واستنزاف لقواه وموارده، وضعف في قدراته وفاعليته، أودى مجموعها إلى فجائع مؤلمة.
في إطار هذه المزالق يقف الدارسون طويلاً عند أزمات معروفة كانهيار الوحدة بين مصر وسوريا عام 1961م، وهزيمة حزيران وتداعياتها عام 1967م، وحوادث الأردن عام 1970م ضدّ الفلسطينيين، وصراعات الحدود ومشكلاتها بين غالبية كبيرة من الدول العربية، وزيارة السادات إلى القدس عام 1977م، والتدخلات الأمنية والسياسية والإعلامية وأحياناً العسكرية في شؤون بعضهم بعضا، وحرب البؤر والمحاور بين العواصم العربية، بلوغاً إلى غزو نظام صدام حسين للكويت في آب 1990م.

نظرية الأمن القومي
أعتقد أن من يبحث بتبصّر في الواقع العربي، يخرج بحصيلة تتجاوز كثيراً العناوين المذكورة أعلاه، والتأريخ مبسوط بين أيدينا، والمعلومات متوفّرة للجميع. لكن إذا شئنا الاختصار، فأجد أن الكثير من مظاهر الصراع والتناحر، تعود إلى مجموعة من العوامل الرئيسية تتصدرها أو تأتي في الطليعة منها نظرية الأمن القومي العربي. فهذه النظرية تحوي بداخلها عوامل التناحر والصراع، وهي تدفع دفعاً للتدخّل بشؤون الآخرين، وإعلان حروب “داحس والغبراء” بين العواصم العربية، وتقديم العنف والحرب على السلم والوئام، وتضع الحروب بديلاً عن التنمية، والحكام بدلاً من الشعوب، وتدفع منطق القوّة إلى الواجهة بدلاً من المصلحة، وتضخّم من الدولة وتجعلها مقابل الأمة، هكذا إلى آخر الكوارث.
بديهي لا أزكي الأنظمة العربية في الأربعينيات والخمسينيات وإبّان العهد الملكي، من لوثة الاحتراب والعنف المتسترة وراء نظرية الأمن العربي في تلك البرهة، لكن المسار شهد تحوّلاً جذرياً بعد انقلاب عبد الناصر ورفاقه عام 1952م، وما تلاه من صعود قوّة العسكر وشيوع الانقلابات، أضف إليه صعود حزب البعث العربي الاشتراكي، ليتقاسم الساحة مع الناصرية، وتتوزّع نظرية الأمن القومي العربي بين الناصريين والبعثيين.
نظرية الأمن القومي العربي بشقيها الناصري والبعثي، لم يقتصر فعلها على تدمير الحريات السياسية لصالح أجهزة الأمن والقمع الممنهج وحسب، وتقديم أجهل فئات المجتمع وأكثرها أمية (الجيوش وميليشيات الحرس الوطني والجيش الشعبي وأمثالها) على حساب أصحاب الكفاءات وبناة الدولة من الإداريين البيروقراطيين والتكنوقراط أهل الاختصاص، ولم تعطل فعل التنمية وتشلّ الزراعة والصناعة وتهدر الثروات بالعسكرة والصراعات والحروب؛ بل تخطّت ذلك كله لتحويل العسكرة والأمننة والعنف، إلى طابع للحياة وأساس لوجودها، فهي لا تستطيع أن تعيش من دون عنف ودماء وحروب وصراعات، واغتيال للكرامات وهدر للحريات، ولا تفقه شيئاً من التنمية والتقدّم، فضلاً عن التعدّدية السياسية والفضاء الاجتماعي المفتوح وحقوق الإنسان وما شابه، بعد أن غطست في مستنقع العسكرة، ولم يعد حكام هذا القطيع من القوميين الانقلابيين الثوريين، يستطيع التنفس أو الحياة بعيداً عن الاحتراب والعنف في الداخل وفي الخارج، ومن يريد التأكد تكفيه مراجعة بالعناوين العريضة لتجربة صدام وفتنه وعنفه وحروبه منذ أن تسنّم السلطة في تموز عام 1979م حتى سقوطه في نيسان 2003م.

تحدي النظام الأوسطي
منذ البداية أُريد للنظام الإقليمي الشرق أوسطي أن يكون نداً ثمّ بديلاً للنظام الإقليمي العربي، وهذه باختصار هي قصة الصراع بين النظامين. لكن قبل ذلك لا بدّ من استكمال الفقرة السابقة بالإشارة إلى أن نظرية الأمن القومي العربي بشقيها الناصري والبعثي، وإن كانت السبب العميق وراء كبرى التداعيات في الواقع العربي خلال أكثر من نصف قرن، إلا أنها ليست العلة التامة أو الوحيدة في أزمات النظام السياسي العربي. كما أن تحميل عواصم التيار القومي هذه المسؤولية الكبيرة، لا يعني أبداً تنزيه بقية العواصم العربية لاسيّما في الخليج وشمال أفريقيا والأطراف؛ بديهي من دون وجه للمقارنة بين مسسؤولية دول القلب أو المركز (وأغلبها قومية) وبين هذه الدول، وتأريخ الجغرافية العربية ويوميات الحاضر، خير دليل على هذه النتيجة المؤسفة.
أما إشكالية النظام الشرق أوسطي في مناهضة النظام الإقليمي العربي، فقد كانت سياسية منذ البداية، أُريد من ورائها تكييف وجود “إسرائيل” في البُنية السياسية للمنطقة، وجعل هذا الوجود طبيعياً. كما تمثل الغرض الثاني بإقحام دول الجوار العربي في معترك المنطقة، ولاسيّما تركيا وإيران وإثيوبيا وأحياناً باكستان، لتكون الحصيلة العملية للإجراءين الأوّل والثاني، النيل من نقاء النظام العربي، وإعادة خلطه بغيره لضرب هويته وانسجامه ووحدته.
لقد كنا شهوداً على أبرز تقلبات النظام الإقليمي السياسي العربي، وعلى إخفاقاته وأزماته، لكنه بقي حياً برغم كلّ المحن يتجاوب مع الحياة، بتغيير صيغه العامة ومحاوره وبؤره المؤثرة، وهو اليوم لم يزل صالحاً للنهوض بدوره، لكن ضمن معادلة وجودية وظيفية جديدة تتمثل برأينا، بإزاحة القوّة والانتقال منها إلى المصلحة، كمرتكز جديد لصياغة مستحدثة لدوره ووظائفه، وجوهر هذه النقلة من نظام القوّة إلى نظام المصلحة، هي موضوع مقال مستأنف بإذن الله.