المصباح

ثقافة 2023/07/08
...

 لؤي حمزة عبّاس
كنت أجّلت المهمة أكثر من أسبوع محاولا نسيانها، لكنها تعود وتلحُّ عليَّ حالما أكون في غرفة الاستقبال، بعيداً عن ضجيج التلفزيون، عندها يضايقني وضع المصباح وهو ينفصل أكثر عن قاعدته، يوماً بعد يوم، ويميل إلى الجانب، فيجعل الغرفة كأنها مشهد مسرحي، نصفه مضاء بقوة ونصفه الآخر خافت الضوء.
هذا الصباح، رأيت المصباح وقد انفصل عن قاعدته تماماً، ولم يعد يربطه بها سوى سلكين رفيعين يغذيانه بالكهرباء.
عصراً، كنت أمام محل المواد الانشائية والكهربائيات، حاملاً كيس النايلون الأسود وفي داخله المصباح، كما وقفت قبل نحو شهر أو أكثر، تشغلني البضاعة المعلّقة، النازلة من السقف، والأخرى المصفوفة داخل علبها أمام المدخل، كان يجلس، أمامها، رجلان ممتلئان تعدّيا أواسط العمر، بدشداشتين بيضاوين، على كرسيين بلاستيكيين، ينهمكان في حديث، وقد تركا منفذاً ضيّقاً، بين البضاعة والجدار. سلّمت ودخلت محاذراً أن أصدم شيئاً ما فأخرب صفَّ البضاعة، ردّ أحدهما وقد التفت نحوي بوجهه الأسمر اللحيم، تصوّرته صاحب المحل وهو من سيقوم ويلحق بي، لكنه لم يقم ولم يلحقني، فأكملت خطواتي حتى آخر المحل، ولم يطل وقوفي في الإضاءة القليلة، فقد ظهر صبي من فتحة طولية على يسار الداخل، بدشداشة سوداء لامعة أطبق زر ياقتها على رقبته، حاملاً كارتونة مفكّات رفيعة متوسطة الحجم، بمقابض ملوّنة، تركت المفكّات ونظرت إلى وجهه، كان شبيهاً بالرجل إلى حدٍ كبير، قال:
ـ تفضل.
فأشرت لمصباح عريض مسطّح الزجاجة معلّق إلى جانبه، وسألت:
ـ بكم؟
ـ تسعة.
قلت بصوت واطئ، متحاشياً أن يسمعني الرجل:
ـ وإذا أخذت اثنين؟
ـ بثمنطعش
أجاب منشغلاً بترتيب المفكّات على المنضدة، فقلت:
ـ خمسطعش
انصرف عن المفكّات ونظر نحوي، فقلت:
ـ سطعش؟
مال إلى الجانب ونادى:
ـ گلوب أبو التسعة، اثنين بسطعش؟
رد الرجل، من ورائي:
ـ سبعطعش، انطيهيا.
كرّر الصبي بجملة لا فصال فيها:
ـ سبعطعش.
قلت، منهياً المسألة:
ـ افحص.
فأخذ يفحص المصباحين، واحداً وراء الآخر، وكان الضوء قوياً، يخترق البلورات الثلجية المتلاصقة على زجاجتيهما.
أضاف بنبرة طفولية، دعائية إلى حد ما:
ـ مصباح مائي ممتاز.
لم أفهم، على وجه الدقّة، معنى أن يكون المصباح ثلجي الضوء مائياً، فقلت لنفسي: ربما لأنه مقاوم للماء، أو ربما لإضاءته التي منحت المحلَّ أحساس ليلة ماطرة، وزادت من لمعان دشداشة الصبي كما لو كانت مبلّلة، ورأيت، أخيراً، أن القطرات على الزجاجتين كفيلة بالتسمية.
أعاد المصباحين إلى علبتيهما، ثم وضع العلبتين في كيس نايلون، وسألني، قبل أن يسلّمني الكيس:
ـ أنت معلّم؟
ـ لا، لست معلّماً.
لم يكن الرجلان يجلسان أمام المحل، دخلت بخطوات سريعة، كان الصبي أمام منضدته وقد ارتدى، هذه المرّة، قميصاً مقلّماً بياقة عريضة، مفتوح الرقبة.
ـ مرحبا عمو
ـ مرحبا
أخرجت المصباح برقبته المفصولة، وضعته على المنضدة، وقلت:
ـ أخذته قبل شهر، تذكرني، لكنه انفصل كما ترى.
نظر إليه، وقال:
ـ ما يتركون شي على حاله!
سألت على الفور:
ـ مَنْ هم؟
ـ الطلاب.
ـ أيُّ طلاب؟
ـ طلاب مدرستكم.
تذكّرت سؤاله في المرّة الفائتة، وابتسمت.