د. علي فيصل الصديقي
اطلعت مؤخرًا على رواية بعنوان "اغتصاب يشبه الآخر" للأديب البروفيسور صبري خاطر، وهي العمل الرابع من أعماله الروائية، التي يخط في كل منها خطا مختلفًا يسير فيه، ضمن تكنيك فني تستلهم فيه الأحداث والحوارات سردا قصصيا دراميا يناقش قضايا فكرية وأيديولوجية ونفسية ضمن سياق الأحداث.
تتحدث هذه الرواية عن اغتصابين، يشبّه الراوي كل منها الآخر في العنوان عبر استدعائه للثنائيات الثقافية المتناقضة، فيعرض ثنائية الاعتداء على الجسد وانتهاك حرمته من جهة وقوعه على الفرد أو على الدولة، تشابهًا من حيث مصطلح الاغتصاب لا تشابهًا من حيث حجم الفاجعة والخطيئة المرتكبة.
تدور أحداث الرواية حول شاب اسمه (السالك) وُلد لأسرة تتخذ الصوفيّة طريقةً، ولكنه يتمرّد على تنشئته الاجتماعية الدينية، التي حاول والده (النعمان) تربيته عليها، يتمرد لأسباب متعددة من بينها الشك الذي يقوده في النهاية إلى طريق غير سوي، حيث حاولت جهات أجنبية تجنيده ضد مصالح دولته، وإلى الحد الذي يصل فيه لارتكاب المعصية واغتصاب امرأة أجنبية، قدمت في ظل شركة استثمار لها دور معين، بما يثير غضب الجهات الأمنية في دولتها. هذا هو مصير السالك الذي انتهى به المطاف في السجن. ثمَّ ينقلنا الراوي تحولاً (Paradigm Shift) في هذه الأحداث إلى الوجه الآخر للاغتصاب، مؤرخًا أحداثًا دقيقة إبان الاحتلال الأمريكي للعراق. هنا تؤكد الرواية أن ثنائية التدين واللاتدين لم تكن مانعًا من التحول إلى شخص آخر، يحمل قيما أخرى تحمل القارئ على القبول به بعد انكار سلوكه السابق، فالعاصي "السالك" يتحوّل إلى "قناص ماهر" في نهاية الرواية، نحو تحول محوري في حماية أهله في مواجهة التخريب كما اعتقد هو بما يغير قناعة القارئ به، ولأن القيم التي آمن به هي قيم عليا حملت الرواية رمزية عالية في نهايتها تمثلت في أنه بقي طليقا ولم يتمكن أحد من القبض عليه.
تقع الرواية بين عدة محطات فكرية، أجاد الراوي الانتقال أو نقل القارئ من نموذج فكري (Paradigm Shift) إلى نموذج فكري آخر، سيما ما يتعلق بخصائص علم الاجتماع العاطفي في العلاقة بين الجنسين، أو ما يتعلق بالجماعات الدينية والفاعلين المؤثرين في المجتمع، حيث يمكن للقارئ ملاحظة ما يأتي:
أولاً – من الوجهة الدينية: يقدم الراوي درسًا حول كيفيات وأسباب تغيّر النماذج الفكرية الاعتقادية بين حالة التدين واللاتدين، بين الالتزام الأخلاقي والممارسة اللاأخلاقية، وفق معايير المجتمع الشرقي العربي. كما يستعرض ثنائية فهمنا للصوفية بين الفعل الظاهر والحقيقة الباطنة. فعلى سبيل المثال، يقدم العمل وصفًا عمليًا تجريبيًا للصوفية في أوج ذوقها الروحي واتصالها مع العالم الآخر من خلال تجربة الموت والتحرر من الجسد، حيث ينقلك الراوي من عالم الأحياء إلى عالم الأموات نقلاً دراميًا رائعًا يتغيّر فيه الحس الروائي ويتفاعل بمصطلحاته ودوافعه وإشاراته التي تختلف بين هذين العالمين. ولا أخفي سرًا أنّ هذا المشهد الدرامي قد أحدث أثره الكبير في نفسي، وجعلني أعيش معه التجربة. ونقدم هنا تدليلاً على ذلك التصوير الفني الذي أبدع فيه الراوي بقوله: "حين تعود إلى جسدك ستطوقك مشاعر أخرى.. حب الحياة.. ستنسى هذه البهجة التي أنت فيها وتخاف من الموت.. سيرجع إليك الحس أن الحياة أجمل ما في الوجود.. ستظهر لك ألف خدعة تطوقك بالشبهات.. لا تنس أنك ظل لشيء أكبر منك.. لا يمكن للظل أن ينتصر بسهولة على مصدره..". هنا أيضًا يكشف الراوي حقيقة التصوف الروحية، التي لا يشهدها الشخص المعتاد الذي يحكم على التصوّف في ظل مظاهره الطُرُقية التي قد يصيبها ما يصيبها من شطحات وممارسات لا يعتبرها الإنسان العادي معقولة.
ثانيًا – يقدم المؤلف وجبة عبر- ثقافية ينقل فيها القارئ من سوسيولوجيا الأخلاق الجنسية في الشرق العربي ومقارنتها مع الأخلاق الجنسية في العالم الغربي، حيث يختلف التفاعل بين حدث الممارسة المبنية ثقافيًا على ثنائية الموافقة والقبول، والجبر والإكراه، فيصوّر لنا الراوي كيف يتفاعل الشرقيون والغربيون مع ثنائية القبول/الإكراه الجنسي، بما يعطي تصورًا حول طبيعة المجتمعات ومرجعياتها الأخلاقية وطرق التفاعل وحل المشكلات. ولا يقتصر الأمر على الأخلاق الجنسية، بل يصوّر لنا سبل التفاعل مع حلحلة المشكلات السياسية والأزمات الاجتماعية، بين ثنائية الوعي القبلي والعشائري الذي قد تحسم فيه المنازعات بسرعة وسهولة، وبين الوعي السياسي والقانوني الذي قد تُحسم فيه الخلافات بين الدول وفق القوة العسكرية.
وختامًا، لا شك أن الرواية من حيث القالب الفني والأدبي تكشف تمرّسًا لدى الراوي في قواعد اللغة ومعرفته في كيفية اختيار مفرداته، كما تكشف الرواية سعة اطلاعه وقدرته على استدعاء المصطلحات والمفاهيم والاستعارات الأدبية بقوة ويوظفها في خدمة النص، فمن بين ما قال في ص332: "المأساة تحيط به من كل جانب.. تتحول إلى حبل يخنقه.. يريد أن يتنفس.. لابد أن يتنفس.. رائحة الممر وهو يقاد فيه مثل الخروف المريض، كانت له مثل الأوكسجين رغم أنها ملوثة بما يخرج من الأحذية والدخان ولدهان وأنفاس العذاب".
(المنامة – مملكة البحرين)