عادل الصويري
بنظرة ثقافية فاحصة لحادثة حرق القرآن الكريم، والتي أقدم عليها متطرف عراقي في السويد، بترخيص قانوني من السلطات، وردود الأفعال الدينية تجاهها، خصوصاً من المرجعية العليا في النجف، عبر رسالة من مكتبِها إلى الأمين العام للأمم المتحدة؛ نلحظُ سطوعاً لضرورتين مهمتين: الأولى ضرورة احترام الاختلاف، وترسيخ التعايش، والثانية ضرورة مضمرة في أهمية إيجاد صياغة ثقافية واضحة لمفهوم ملتبس كحرية التعبير.
مثل هذه المواقف الهادئة والجادة؛ تؤكد مرة أخرى صورة الإسلام الثقافية، التي أُريدَ تشويهُها منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، بعد أن كتب كثيرون عن هذه الصورة التي ظهرت على غير حقيقتِها؛ بسبب ضخ إعلامي هائل من جهة، وتقاعس ثقافي "إسلامي" بدا مستسلماً عبر اندماج مثقفين بمفهوم العلمانية الأكثر التباساً؛ لعدم وجود تعريف مقنع ومحدد له، فظل يسبحُ في بركة ضبابية. إنَّ مفهوم حرية التعبير اليوم يُعد من أكثر المفاهيم إشكاليةً؛ بسبب الضباب الكثيف الذي يلف المفهوم الأصل (الحرية)، المُتَأَتّي من غموض الاتجاهات الليبرالية المنادية بالحرية، وهي اتجاهات مُرَكَّبة من الحرية الفردية المنفلتة، وإقصاء الدين وتمثلاته عن الحياة.
هذا الغموض المفاهيمي جعل الألماني (أريك فرام) يقول: "العالم الغربي في طريق مسدود، لقد حصل على الكثير من الأمور الاقتصادية، وفقد أي معنى وهدف في الحياة.
المجتمع الغربي مثل أي مجتمع آخر في الماضي، لابد من أن يفقد حيويته وقوته الداخلية". ليس هذا الكلام تشخيصاً بقدر ما هو نبوءة أطلقها العالم الألماني.
نبوءة لها معطياتها وأسبابها بعد عقود من الافراط في التفاؤل الغربي الذي بدأ ينحسر شيئاً فشيئاً، وبدا واضحاً تراجع القيمة المادية أمام الروحية؛ لذلك ليس هناك من سبيل سوى استفزاز هذه الروحانيات، عبر السخرية من مقدساتها؛ لضمان عدم الاعلان الرسمي لإفلاس الموجات المقابلة.
ولكن لماذا لا يحدث الحوار الثقافي الصريح، بدلاً من الحركات الشعبوية الاستفزازية والمتطرفة، والتي تُعمِّق من مساحة الكراهية على خريطة العالم؟
صعوبة إجراء مثل هذا الحوار الجاد رصدها (داستن بورد) بشكل دقيق في كتابه (الإسلام في المجتمعات العلمانية وما بعد العلمانية)، حين رأى أن الحوار الصادق والصريح يمكن أن يوصل إلى نقاط التقاط وفهم متقارب يحقق الأمن الذي يرسخ قيمة التعايش، والقبول بالمختلف، ويمنع من الانزلاق والركون إلى التشدد، خصوصاً مع صعود أصوات اليمين المتطرف في أوروبا. وهنا نعود إلى نقط البدء، حيث أن المتطرف الذي قام بإحراق القرآن الكريم في السويد، وإن كان لاجئاً عراقياً؛ إلا أنه منتمٍ لأحد أحزاب اليمين المتطرف في السويد، والتي لها مواقف عنصرية متشددة تجاه اللاجئين، وخصوصاً من أبناء الجاليات الإسلامية.
بقاء مثل هذه الأصوات اليمينية عالية، يعيق بالتأكيد أي فرصة للحوار الحضاري الجاد الذي يدعو له (داستن بورد) في كتابه، آخذين بنظر الاعتبار؛ الجديد الذي طرأ على التشدد حين صار مؤطراً بالقانون وبموافقة السلطات.
كما ينقل (داستن بورد) صوراً عديدة للإساءة الاستفزازية إلى صورة الإسلام الثقافية في الغرب، وأوروبا على وجه الخصوص، كما في فيلم وثائقي هولندي بعنوان (الاستسلام) الذي أنتجه الهولندي ثيو فان غوخ مع سيدة صومالية مسلمة هي أيان حرسي ارتدت عن الإسلام.
قصة الفيلم تدور حول ثيمة العنف ضد المرأة؛ لترسيخ فكرة أن المرأة المسلمة مستسلمة للقهر والعنف، ويحاول الفيلم إعلان الإسلام ديناً للعنف ضد المرأة، وتقييد حريتها. ولأن القصدية الحقيقية هي إثارة مشاعر المسلمين المقيمين في هولندا، فقد كان في الفيلم مشهد امرأة عارية بالكامل كُتب على جسدها آيات من القرآن كتاب المسلمين المقدس.
ويرى بورد أن ثيو فان غوخ وأيان حرسي يعلمان أن مثل هذا المشهد، أو الفيلم بصورة عامة سيولد احتجاجات لفظية أو عنفية، إلا أنهما أرادا إيصال فكرة أن في أوروبا أصواتا ترفض التنوير والتعدد الثقافي.
هذه الأصوات ترفض وجود الجاليات المسلمة التي تراها خطراً على الليبرالية في هولندا.
وعلى الصعيد السياسي، كان البرلماني المتشدد (غيرت فيلدرز) قد حصل على شهرة كبيرة؛ لمعاداته الصريحة للإسلام، ولوجود المسلمين في هولندا لدرجة أنه شبَّهَ القرآن الكريم بكتاب (كفاحي) لهتلر، وطالب بأن يكون القرآن كتاباً محظوراً في هولندا مثله مثل كتاب هتلر، معترفاً أنه ليس الأول في هذا المجال، بل سبقه لهذا التشبيه وينستون تشرشل. وقد كان ثيو فان غوخ المخرج الهولندي من أشد المؤيدين لهذا التوجه.
وبشيء من الغرابة يسأل داستن بورد: "لماذا كان الكثير من الناس يرغبون في سماع أن الإسلام دين عنيف؟ هل القرآن يشجع العنف ضد النساء ويشرع له؟" ثم يصل إلى قناعة أنَّ أيان حرسي، الصومالية المرتدة عن الإسلام، وصاحبة الفيلم الهولندي بمشاركة ثيو فان غوخ؛ كانت بمثابة "عطية من الله" لأنصار اليمين القومي المتطرف في هولندا، ويبدو أن العراقي المتطرف (سلوان موميكا) هو ذات "العطية" بالنسبة لليمين المتطرف في السويد، طالما أن الهدف الذي صار مُقَنَّناً ومُشَرْعناً من السلطات، وتحت
حمايتها؛ هو الإساءة لصورة الإسلام وكتابه المقدس.