حسن الكعبي
التجربة السياسية العراقية كانت وما زالت تجربة مريرة في ظل رواشح الاستبداد والديكاتوريات المهيمنة على أدائها، ازاء انخفاض منسوب قيم العدالة الاجتماعية وعدم اختبار التجربة الديمقراطية، التي احتفى بها العالم للخلاص من مهيمنات الطغيان وتحقيق الرفاهية والعدل الاجتماعي، وللخلاص من واقع الثورات الاجتماعية المتعاقبة للمطالبة بالحقوقيات الاساسية للمواطن.
باعتباره الضحية الاولى في سياق تجارب العنف السياسي، بعد أن كان هذا العنف يمثل الستراتيجية الأساسية في أداء السلطة والطابع المهيمن على الاداء السياسي لها، والذي فهم إدارة السلطة فهما مغلوطا أنتج ما أنتج من كوراث وويلات أدخلت الشعوب في أنفاق مظلمة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومايترتب على هذا النوع من الأداء في إنتاج الأزمات، فكانت تجارب الديمقراطية باختلاف مفاهيمها وتبييئتها وتكييفها ضمن الواقع المتغير من سياق اجتماعي إلى سياق آخر هو الحل في السيطرة على هذه الازمات والوصول إلى صيغ من الحلول النموذجية لها.
إن هذه التجربة النموذجية لحل الاشكاليات الكبرى التي واجهت العالم لم تختبر في معامل السياسة العربية، خصوصا في العراق الذي أصبح من أبرز حواضن التجربة الديكتاتورية، لا سيما بعد انهيار التجربة الوطنية المتمثلة بانقلاب 14 والتي لم تسبقها أو تليها تجربة مماثلة، وصعود حكومة البعث الدموية إلى سدة الحكم، ليشهد المجتمع العراقي كرنفالا من الازمات التي عصفت به فكان شاهدا على مخرجاته الدموية، ليجد نفسه قلقا في محاولة تغيير المسار السياسي سواء بالركون إلى موجة الاحتجاجات السلمية أو إلى تفعيل المشترطات النقدية كصيغ ارشادية أو حتى الركون إلى الطابع الراديكالي، بوصفه احد الخيارات في تحسين الأداء السياسي.
إن العودة للتغيير في الاداء السياسي، يعبر عن انبعاثات الحنين للتجربة الوطنية الحقيقية المتمثلة بانقلاب 14 تموز، والتي تحولت إلى مجرد ذكرى تاريخية أو مناسباتية يتم استذكار منجزاتها وما حققها زعيمها الوطني الخالد عبد الكريم قاسم من مكتسبات حقيقية في عمر دولته القصير، لتظل تلك التجربة الوطنية الخالدة التي اختبرت المعطيات الديمقراطية وافرازتها العادلة حكرا على الاستذكار التاريخي ومدوناته، التي تعيد تقييم المنجزات الكبرى للثورة ولزعيمها.
اذ حققت الثورة مكاسب ومنجزات كبيرة يرصد المؤرخون ومنهم - دكتور عبد الخالق حسين - أهمها على مجمل الاصعدة فعلى الصعيد السياسي والاجتماعي (إلغاء الثورة الملَكية وإقامة النظام الجمهوري، وتفجير الوعي السياسي لدى الجماهير الشعبية الواسعة، التي كانت محرومة من المساهمة في النشاطات السياسية، وتعزيز الاستقلال السياسي، والحفاظ على كيان العراق السياسي، واستقلاله الناجز وسيادته الوطنية الكاملة، وإلغاء جميع المعاهدات الاستعمارية الجائرة والمخلة بالسيادة الوطنية، والتأكيد على شراكة العرب والأكراد في الوطن العراقي. كما ألغت الثورة سياسة الانحياز نحو الغرب والأحلاف العسكرية التي سار عليها النظام الملكي، والتي أدت إلى إضعاف العراق عسكرياً، وصدور قانون الجمعيات عام 1961، والذي بموجبه أجيزت ما يقرب من 700 جمعية. وإجازة الأحزاب السياسية المؤمنة بالديمقراطية. إلغاء الأبعاد الطائفية والعرقية من ممارسات الدولة الرسمية، كما وضعت الثورة الأسس لإلغاء التمييز الطائفي في العراق، تلك السياسية التي مورست خلال الحكم العثماني واستمر عليها العهد الملكي، اضافة إلى توقيع معاهدات ثقافية واقتصادية وعسكرية مع الجمهورية العربية المتحدة. والعمل على تقوية التضامن العربي وتنشيط دور العراق ضمن مؤسسات الجامعة العربية. والانسحاب من الأحلاف العسكرية، وإقامة العلاقات المتوازنة مع التكتلات الإقليمية والدولية والأفرو-آسيوية، المساهمة في تأسيس منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، والذي صار سلاحاً ماضياً لحماية حقوق الدول النفطية، ومن الفقرات المهمة في منجزات الثورة هو إلغاء العلاقات الإقطاعية، وإلغاء قانون حكم العشائر الذي كان يخوِّل شيوخ الإقطاع بحسم القضايا الجزائية في مناطقهم، وترتب على ذلك اصدار قانون الإصلاح الزراعي وإلغاء الإقطاع. وهذا بحد ذاته ثورة اجتماعية لصالح الملايين من الفلاحين الفقراء. إضافة إلى مجانية التعليم وتبني سياسة العدالة الاجتماعية على المستوى الطبقي والجغرافي حيث عممت المشاريع في جميع ميادين النشاط الاجتماعي والمدن العراقية.
إن هذه مجمل هذه المنجزات إلى أدت إلى نهضة ثقافية واقتصادية واجتماعية، تؤكد حقيقة واحدة، وهي أن الزعيم عبد الكريم هو أيقونة وطنية وشخصية لم تتكرر في عمر التجربة السياسية العراقية، وبالإمكان ونحن نشهد الاحتفاء بهذه التجربة في أيامنا هذه أن يتم تمثل بعض الصفات الوطنية لهذا الانسان الخالد، وتمثيل هذه الصفات على ارض الواقع كخيار يظل متاحا امام النخب السياسية المتزعمة لايجاد ولو جزء من الحل لازمات هذا الشعب المنكوب بفيروس السياسية وتداعياتها الكارثية في تدمير البنى التحتية قبل أن يكون منكوبا بأي فيروس أو وباء آخر.