تراجع استعمال اللغة الفصحى في التلفزيونات العربيَّة

ثقافة 2023/07/11
...

  استطلاع: صلاح حسن السيلاوي 

يشهد الإعلام التلفزيوني، تراجعاً واضحاً في استخدام اللغة العربية الفصحى، فقد صار استعمال اللهجات العربية الدارجة، بديلا عن اللغة الأم في البرامج، حتى تلك التي تعنى بشؤون اللغة والثقافة والفكر العربي. يثير ذلك تساؤلات عديدة، عن أسباب ابتعاد النخب الإعلامية عن الفصحى وطاقاتها التعبيرية، قد يفضي بعضُها إلى الظن بعدم  إتقانها، أو الجهل بأهميتها وسلبيات الابتعاد عنها، أو السعي وراء الجمهور، كما قد يدل على غياب الرؤية الفكرية لإدارات العمل الإعلامي. لماذا نشهد تراجعاً في اللغة التي تجمعنا، وتمثل مكسباً جمعيّاً، لما تمتلكه من خزين معرفي، وما توفره من غطاء لغوي، يمكن أن يدعم العمل الثقافي والاقتصادي والسياسي المشترك؟، ذلك لأن اللغة لا تقف عند حدود التخاطب والفهم الجمعي، بل تمتد إلى ما وراء ذلك من مشتركات اجتماعية متعددة.

 ألا يدل تغييب اللغة الفصحى في التلفزيونات العربية على تردٍّ ثقافيٍّ وهروبٍ لاستسهال العمل الإعلامي وسطحيته؟، هل التوجه لاستخدام اللهجات المحلية بدلا من الفصحى، يشيع في ذهن المتلقي عدم أهميتها؟، ألا يمثل ذلك التراجع، ضربة للذاكرة العربية لأن اللغة حصنها المنيع ومستودع أسراراها وكنوزها؟، ألا يمكن أن نعد ذلك بداية لضياع لغوي وانكسار ثقافي جديد، يضاف لانكسارات الغزو المعرفي الذي يصدر من دول واقتصادات عالميّة وثورة ألكترونيّة، لا تراعي خصوصيات المجتمعات وتعمل بفعل قدرة رؤوس الأموال على تغيير العالم؟، ما الذي يمكن أن تفعله الدولة أو المؤسسات الثقافية بشأن ذلك؟، هذه التساؤلات وغيرها، بحثنا عن إجابات لها مع نخبة متميزة من مثقفينا عبر هذا الاستطلاع. 


نكوص وتراجع كبير

رئيس اتحاد أدباء الأنبار، الشاعر محمود فرحان حمادي، أشار برأيه إلى مرور اللغة العربية، بتحديات كبيرة واسعة، لافتا إلى أنها على حد علمه، لم تشهد ما أسماه بـ «النكوص المزري»، و»التراجع الكبير» طيلة مسيرتها السالفة، واستخدامها المتعدد.

وأضاف حمادي مبيناً: هذا التراجع اللغوي والفقر المعرفي، في استخدام لغتنا العربية تقوده مؤسسات ممنهجة، تريد من خلاله طمس معالم هذه اللغة الجميلة، وتشويه وجهها الناصع البهي.

ولولا ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم المحفوظ من قبل الله تعالى، لكان لها تقهقر أكبر واندثار أوسع.

هذه الحملة العالمية الكبيرة، التي أعتبرها مؤامرة على لغة الضاد، وجدت مع الأسف الشديد تجاوبًا وتفاعلا من قبل بعض أهلها الذين يجهلون أو يتجاهلون ما يحيق بهم من مكر سيئ، ووصل الحال بأبناء جلدتنا إلى استهجان اللغة العربية الفصحى، واستبدالها بقدر ما يتمكنون باللغة العامية الدارجة، ومظاهر ذلك ما نراه في شوارعنا بلوحات الإعلانات والمحلات التجارية من كلمات لا تكاد تفهم معناها الا بصعوبة

بالغة. 

وقال أيضا: إن تجهيل المجتمع يعتمد على عوامل عديدة، تقوم على ترسيخ الأسس التي تسارع في عملية التجهيل المتعمدة والممنهجة.

وتعد الفضائيات التي انتشرت في الآونة الأخيرة بشكل ملفت للنظر، أحد هذه العوامل التي تساعد بصورة أو بأخرى في عملية التجهيل، وسواء كان ذلك الفعل بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولا أبرئ تلك الفضائيات من هكذا أفعال، يروم القائمون من ورائها إلى إحداث نكسة حقيقية في لغة الأمة حتى يتحقق لهم ما يريدون من إضعاف لهذه اللغة الحية الفاعلة، فنشاهد والأسى يعتصر قلوبنا برامج هذه الفضائيات الهابطة والتي تشيع اللغة الدارجة بدلا من اللغة الفصحى، وقلة ثقافة المقدمين العاملين فيها والذين يلحنون بصورة معيبة ومخزية، تنفّر المشاهد وتدعوه لمجاراة هذه اللغة الغريبة، بدلا من انتقادها والثورة ضدها وضد برامجها المتدنية معرفيا.

هذه الفضائيات كان لها الدور الكبير في إفساد الذوق العام، وعزوف الناس عن اللغة الفصحى إلى اللغة العامية، التي يجدونها سهلة ومفهومة 

لديهم. 

من هذا يتضح أن بعض الفضائيات استخدمت كسيف بتار لقتل اللغة الفصحى، تلك الفضائيات التي تؤدي بدورها إلى تردي الثقافة الرصينة وترسيخ مبادئ الثقافات الواطئة، ومن ثم تشويه الإرث الحضاري للأمة التي سادت به على باقي الأمم، وازدهرت وشمخت أركانها.

فعلى كل مثقف غيور تقع مسؤولية التصدي لمثل هذه الأمور الخطيرة والحفاظ على اللغة خالصة ناصعة كعهدها الأول، وتثقيف الناس وتحذيرهم من هذه المؤامرات التي تحاك ضد لغتنا والتي غايتها طمس الفصحى وتغريب المجتمع والعبث بجماله الفكري 

والمعرفي. 


تناقص القاموس اللغوي للمشاهد 

الناقد عمار الياسري يرى أن اللغة العربية الفصحى، أضحت منذ سنوات ليست بالقليلة في تردٍّ عبر استعمالها في وسائل التواصل الاجتماعي، ومنها الفضائيات العربية، مشيرا إلى أن ذلك مرده الى النكوص المعرفي الذي ساور المؤسسات الأكاديمية والتربوية من جهة وعمليات الإنتاج التلفزيوني من جهة أخرى، لافتا إلى أن الجامعات التي تعمل على تدريس فنون الإعلام المختلفة، أهملت مادة اللغة الإعلامية، حتى عدت مادة ثانوية، بعدما كانت في عقود ماضية من أهم شروط القبول في الكليات الإعلامية، ومن المناهج الدراسية الصعبة، فضلًا عن إهمال سلامة اللغة العربية في مناهج الإلقاء والخطابة والإعداد البرامجي والسيناريو وغيرها، مما ولد جيلًا إعلاميًا يعاني من سلامة اللغة العربية، وهذا بطبيعة الحال، جعل من المادة الإعلامية المنتجة ضعيفة مبنى ومعنى، لأن فرز الجماليات مشروط بإتقان اللغويات كما

يقال. 

وأضاف الياسري مبينا: لردم هذه الهوة الجمالية، برز المحكي اليومي، الذي انحدر من البرامج المنوعة إلى البرامج الثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية وغيرها، ولأن الفرجة التلفزيونية عمادها التكرار في التلقي، اعتاد المشاهد والمستمع على سماع المحكي اليومي، وبالنتيجة تناقص قاموسه اللغوي الفصيح، وهو الذي يعاني من ذات المحكي في المدرسة والعمل، مما جعل اللغة العربية تتراجع بشكل مخيف ومرعب، وحتى المحاولات الإعلامية التي عملت على تقويم هذه الظاهرة لم يكتب لها النجاح، إذ يذهب علماء اللسانيات إلى أن الملكة الفكرية والسماعية، التي اعتادت على اللحن من الصعب تقويمها باللفظ الصحيح أو بالمعرفة اللغوية. 

لذا نلحظ أن محاولات تداول اللغة العربية الفصحى شابها الزلل والخلل.

أما الحلول الناجعة كما أرى، اعتماد اللغة الأدبية أو الإعلامية من شروط النجاح، أو من محاور المناهج الدراسية، سواء في وزارة التربية، أو وزارة التعليم العالي، فضلًا عن جعلها من مؤهلات التوظيف، سواء كان في التعليم أو الإعلام أو الفنون وغيرها، مع مراعاة التعليم التفاعلي في تعليم اللغة العربية، وتذويبها في تفاصيل العملية التربوية برمتها، واستعمال الدراما التعليمية، القائمة على اللغة العربية، حتى نستطيع إعادة هيبتها على الرغم من صعوبة المهمة، بعد زوال الحواجز التي تؤطر وسائل التواصل الجماهيري، إذا أصبح الفضاء الافتراضي وسيلة تواصل واسعة، غير مسيطر عليها، وهي تعمل على تسويق لغة تداولية شعبوية، تنتمي للحداثة السائلة، مما يجعل عودة اللغة الأم، تحتاج إلى جهود وافرة، ومما لا شك فيه نحتاج عودة اللغة العربية الفصحى، التي تنتمي للبلاغة والفصاحة والبيان، وهي جسر التواصل مع الآخر المختلف، الذي عرفنا عن طريق منجزاتنا الثقافية الإبداعية عن التواصل السبراني الشعوبي الذي سينحسر يومًا ما مع المتغيرات الثقافية الجديدة التي تحددها المتغيرات المعرفية وهذا ما شهدناه وسنشاهده لاحقًا. 


الخصوصيات المحلية والجمهور 

الكاتبة أطياف رشيد، عدّت مسألة تراجع استخدام اللغة العربية الفصحى في الفضائيات، من الموضوعات ذات الأهمية البالغة، مشيرة إلى أن محاولة إيجاد خصوصيات محلية، قد يكون أحد أسباب هذا التراجع بمعنى أن النخب الإعلامية تحاول بذلك أن توجد ما يناسب بيئة محددة بلغتها المحلية الخاصة بذلك البلد، وهي قد تكون بذلك تتقرب الى جمهورها وتقرب المسافة بينها وبينه من أجل التواصل غير 

(المتكلف).

وأضافت رشيد مستدركة: لكن ذلك لم يكن إلا على حساب اللغة العربية الفصيحة وغناها، فغيابها من أهم منصة تواصل، مع أوسع جمهور مشاهدين ومستمعين، خلق قطيعة بين هذا الجمهور وبين إرثه اللغوي، وهذه القطيعة تستشري لتشمل جوانب حياتية مختلفة، حيث تلقي بظلالها على انسحاب اللغة العربية الفصحى من طريقة تفكير شريحة واسعة، وهي هنا مع الأسف تكرس ضياعها وخاصة بين الشباب، لسهولة العامية المحكية، فلا يتعب عقله في التحدث بها، أو قراءة أدبها، ومن ثم يبتعد عن التفكير بها، ولهذا فإن الإرث الثقافي، سيكون في خطر لأنه يشبه حينها  مستودعا مهملا ومهجورا، لا يلتفت إليه أحد من هذا الجيل 

الواسع. 

وقالت أيضا: إن اللغة العربية الفصحى، هي مشترك فكري ومعرفي، فإن ضاعت أو تشوهت، ضاع معها وتشوه الفكر، وإن تشوه الفكر، لم يعد بمقدوره إنجاز الروائع، التي كتبها عمالقة الادب والفلسفة العربية، وهنا يكمن جوهر الخطر، إذ سوف يستشري كل ما هو ضحل وسطحي.

ويقع على عاتق الدولة والمؤسسات الثقافية، أن تضع خطة حقيقية في سبيل تدريب كوادر الفضائيات على اللغة العربية الفصحى في برامجها المختلفة.


سلطة المُرسَل إليه 

الشاعر والإعلامي حيدر الحاج، وهو أحد المثقفين العاملين في البث التلفزيوني الفضائي، أشار في إجابته إلى ضرورة أن نجعل من الغاية التي أسست من أجلها الفضائيات خط شروع لفهم أسباب تراجع استعمال اللغة العربية فيها، فتحدث عن تلك الأسباب، لافتا إلى أن عدداً كبيراً من تلك الفضائيات، تم تأسيسها لغايات 

إما تجارية أو إيديولوجية سياسية، وهذا النوع من المؤسسات الإعلامية، على الرغم من أنها تبث لكل العالم، لكنها موجهة 

لجمهور محلي، وعليه لا يهتم مالكوها بالرصانة اللغوية، أو الحفاظ على الخطاب الرسمي بقدر اهتمامهم بإقناع النوع المستهدف من المتلقين؛ على حد 

وصفه.

وأضاف الحاج مبينا: لذلك جنحت لغة البرامج فيها إلى مخاطبة عامة الناس، وهنا بشكل ما، لم يعد الخطاب ينطلق من مركزية منتجه، وإنما تبدو سلطة المرسَل إليه أوسع مدى من المرسِل.

ويتضح هذا جلياً في الاعتماد على المظهر الخارجي للإعلامي أو قدرته على خلق التفاعل، وإن على حساب الشروط والمعايير التي وضعت لضمان إيصال الرسالة الإعلامية، وهذا يفسر جانباً من لجوء أصحاب الفضائيات إلى ما بات يعرف بـ « الفاشينستات أو اليوتيوبرية» وغيرهم ممن يجذبون نسبة مشاهدات 

أكبر.

إذن المشاهدات هي المعيار الذي يضمن إيصال الخطاب لجمهور أوسع يحاول محتوى هذا النوع من الفضائيات كسبهم كزبائن أو ناخبين أو تابعين بحسب سياسة المؤسسة الإعلامية.

أما الفضائية الأخرى التي لا تخضع للتصنيف السابق كالتلفزيونات الرسمية أو الإخبارية المتخصصة وحتى المحطات الدولية الناطقة باللغة العربية، فلا مبرر لها لاِعتماد هذا النوع من الإعلاميين.

شاهدتُ وثائقيَّاً بثته قناة (DW) الألمانية الناطقة بالعربية عنوانه على الـ YouTube ( موزمبيق - مخزون هائل من الغاز الطبيعي تحت تهديد الإرهاب) على الرغم من أن النص المقروء، لا يعتمد اللهجة العامية لأيٍّ من الدول العربية، وإنما العربية التي تبدو لغير المتخصص أنها فصحى؛ لكن حجم التجاوز على قواعد اللغة العربية لا يسهل إحصاؤه عبر تتبع قارئة التقرير وهذا يدعو للغرابة!.

وقال أيضا: من المعلوم أن البرامج التسجيلية، ونشرات الأخبار تخضع قبل البث لما يسمى “ حارس البوابة “ ، وهم مجموعة من المتخصصين، يمثلون مصدات أو فلاتر داخل المؤسسة الإعلامية، يشرفون على سلامة المحتوى، ومن ضمنها السلامة 

اللغوية.

 بعض البرامج الحوارية أو المباشرة، قد يصعب على مقدميها الحفاظ على عربية سليمة بالسليقة؛ لكن هذا لا يبرر التجاوزات اللغوية واللفظية المقامة، ضد الأداة التي تنطق بها تلك الفضائيات.

إنَّ الاستمرار بالاعتماد على اللهجات الخاصة، للبلدان العربية الممزوجة بمفردات وافدة من اللغات الأجنبية، أو ما تفرضه لغة التطور التقني، قد يؤدي بمرور الزمن إلى اشتقاقات واستعارات ومجازات مستوحاة من طبيعة المجتمعات والأحداث المحلية، يكون معها الخطاب، غير مفهوم بين بلد وآخر.

وهذا يؤثر بشكل أو بآخر على الذاكرة الجمعية، للشعوب المشتركة باللغة 

ذاتها.