وارد بدر السالم
نعتقد أن فكرة «البطل» زحفت من السينما الى السرد واستقرت طويلا في كلاسيكيات الرواية العالميّة وحتى العربيّة منها. فالبطل السينمائي هو الأقرب لقبول هذا التوصيف من بطل السرد، والأكثر حضوراً جماهيرياً. لما له من برمجة إخراجيّة مخطط لها، إما أن تكون عضليّة أو تمتعه بذكاء بوليسي، أو حيلة تبهر الجمهور. نرى هذا الصورة الفيلميّة المعتادة، هي الأكثر تأثيراً بفكرة البطل السردي الذي شاع كثيراً في السرديات الروائيّة القديمة منها. قبل أن يقوضه المصطلح النقدي والجمالي إلى تسمية «الشخصية» فهذه أكثر حميميَّة من فكرة البطل الفيلمي المقبل الى السرديات من بوابة السينما.
في بناء الشخصية ليس شرطاً أن تكون على عدم وفاق مع غرمائها كما في السينما التي تعتمد على توتر الأحداث والمتضادات المتنوعة، عندما تعتمد على صراع متكافئ أو غير متكافئ لينتصر البطل في النهاية. وهذا ما يميز «البطل» عن غيره من الشخصيات الثانوية التي ترفده بعناصر البقاء وديمومته كصانع لها ولبقائه الدائم. ولعل هذا أكثر وضوحاً في أفلام الصراع الفردي ورومانسيات هوليود الأمريكية وبوليود الهندية وسواها من شركات الانتاج التي كانت تستغفل جمهوراً عالمياً والى مدىً طويل.
ويكيبيديا ترى أن البطل «يؤثر في ظروف باقي الشخصيات فهو في الجوهر من يخلق بقية الشخصيات» وهذا يتماشى مع الفكرة السينمائية القائمة على الحبكة الدرامية أو الميلودرامية التي تشي بالمفاجآت والانزياحات البعيدة عن التوقع الشعبي. لذا فإن من ضمن جملة الهواجس السينمائية هي الجمهور الذي يُعدُّ الفيلم من أجله. بعكس القراءة التي تنشط ذاتياً ولا تتوجه الى جمهور محدد بعينه. انما جمهورها عام، ويمكن مطالعة نظريات القراءة في هذا الشأن لنعرف أنواع القارئ السردي. فلا نجد تقريباً بحثاً عن «بطل» قديم ملأ رفوف المكتبات والشاشات السينمائية، بل أُستعيضَ عنه بـ الشخصية، وهي التي تحرّك الأحداث، أو تتحرك من حولها الأحداث، بوجود شخصيات قد تكون رئيسية أيضاً وليست هامشيّة كما درجت الحال في السينما.
كمال عبدالجواد ذو الشخصية المزدوجة، في ثلاثية نجيب محفوظ هو المهيمن على الفكرة السردية. وهو يقارب فكرة «البطل» السينمائي. ولعل غريغور سامسا في مسخ كافكا، يوضع موضع الحدث في التحول البشري الى حشراتي. ليكون بناؤه الكئيب يمثل مرحلة الاغتراب الروحي والنفسي في الغرب.
على أن مصطفى سعيد للطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال» يعيد دوره الناشط في وهم فتح العالم الغربي بعضوه برسم ناجح من الطيب صالح. وعمر المختار ورأفت الهجان وروميو وهاملت شكسبير، وراسكولينكوف لدوستويفسكي، وسدهارتا لهيرمان هيسه، كلها شخصيات «بطلة» استأثرت بالمتون السردية من دون أن تترك لنمو شخصيات جانبيّة أن تتعاضد مع أدوارها الإنسانيّة والنفسيّة.
فإن كان بعضها سينمائياً، فإن البعض اقترب من الهاجس السينمائي كثيراً: عمر المختار. كمال عبدالجواد. بوذا. راسكولينكوف.
رأفت الهجان. سامسا.
صناعة البطل في رومانسيات الكتابة تغيّرت على مر التجارب السردية، فما عادت السينما تلهم الكاتب شخصياتٍ بطلة، بقدر ما آلت السرديات الى احتكام فني صارم في تشظية الشخصيات من دون أن يكون هناك بطل واحد، أو شخصية واحدة تستأثر على مدار الكتابة والسرد.
ماركيز مثلاً في مئة عام من العزلة، شتّت شخصياته ثم جمعها في «ماكوندو» القرية الكولومبية المتخيلة، ليكون مجموع الشخصيات هي المؤثرة في الأبنية الصغرى والكبرى في البناء الفني المُحكم، لا تفضيل فيه لشخصية عن أخرى، بل الجميع أسهموا وخلقوا المُتاح من الثيمة الواسعة التي عبرت التاريخ الكولومبي كله. الى الإنسانية العالمية.
يوسا في «العمى» استدرج مدينة خيالية من خلال وباء عظيم، من دون أن تكون شخصية واحدة تقود الأحداث الى مصائرها.
وايزابيل الليندي في مجمل رواياتها كانت حاذقة في تأهيل الشخصيات الى ما يجب أن تكون عليه، من وعي سردي يكاد يكون متكاملاً. حتى الياباني هاروكي موروكامي في معظم أعماله الروائية، يفرش موضوعاته لتكون أوسع من السرد الفيلمي، ولا يعطي لشخصية واحدة «بطولة» غير متكافئة مع شخصياته الأخرى. وسنجد هذا في معظم سرديات ما بعد الحداثة، حين صارت الرواية المعرفية، تستنجد بالتاريخ والجغرافية والعلوم الاجتماعية، لتكون رافداً لها في «صناعة» الثيمة التي تتوسع حيثما توسعت الأحداث في زمانها ومكانها.
البطل إذن أسطورة سينمائية أوجدت لها حظوة مناسبة في الأجيال الأدبية القديمة، لكنها؛ بتقديرنا؛ ما عادت ذات قيمة فنية، إلا ما ندر من السرديات العالمية التي، أوجدت «البطل» وصورته الواحدة الفاعلة في نموها السردي كصورة جان باتيست غرونوي لباتريك زوسكيند في «العطر- قصة قاتل» التي تميزت بفرادتها الشمّيَّة النادرة في الروايات العالمية.