مؤيد أعاجيبي
عندما نتحدث عن الفلسفة الرواقيَّة، فإننا في الواقع نستكشف رؤية للحياة بدلا من الانغماس في نظريات محددة تتعلق بالمعرفة. فهي تهدف إلى تحقيق توافق الذات مع الطبيعة عن طريق التدريب والممارسة، من أجل وضع أساليب جديدة للعيش. ولكي نتمكن من الوصول لفضيلة الحكيم يجب أن نستشعر من نكون نحن وما طبيعة هذا العالم حتى تتطابق هذه الذات مع صورة العالم الحقة حكمة الحياة.
يجب علينا أن ندرك جوهر من نحن وطبيعة هذا العالم. ولكن السؤال هنا ماذا يعني أن تتوافق الذات مع الطبيعة؟ يمكننا العثور على الإجابة عندما نعيش وفقاً لتدفق الحياة الطبيعي وأن ننسجم مع قوانينها من أجل تحرير الذات من الأحكام الخاطئة والتقاليد السلبية. وهذا يُفهم في ضوء معرفة القانون الرئيس عند الرواقية بتميّز ما هو تحت سيطرتنا وما ليس تحت سيطرتنا. ففهم هذا القانون هو سبيل للحياة الفاضلة. والوحيد الذي يعي تماماً هذا القانون ويطبقه وفق الرواقية هو الحكيم اذاً فهو يتدرّب ويستعد ويهذّب نفسه دائماً من أجل الانسجام مع الطبيعة.
والحكيم تنظر له الرواقية كرجل معصوم ومجرد من العاطفة يتمتع بالكمال والفضيلة. إنّه يعيش حياة مليئة بالفضيلة والخير، ويمارسها بشكل طبيعي وتلقائي. إنّه يجمع جميع الفضائل في شخصه، لأنَّ الفضيلة لا تنقسم ويكون هدفها النهائي واحد، وهو تحقيق الخير البشري الأعلى. عندما يكون الحكيم متمتعًا بالفضيلة، فإنّه يشعر بالسرور والسعادة، حتى وإن كان يواجه البؤس والشقاء. يكمن سر هذه السعادة في أن الحكيم يدرك المعنى الحقيقي للحياة وهدفها النبيل، ومن ثم فهو يجد السعادة الداخلية والراحة النفسيَّة حتى في ظل الظروف الصعبة.
ومن ثم، يُعتبر الحكيم في فلسفة الرواقية الشخص الذي يمتلك الحكمة، ويستطيع العيش بسعادة وسلام داخليين حتى في مواجهة الصعاب، أو كما يقول عنه الفيلسوف الرواقي “سينيِكا”، بأنّه “الخير الأسمى، له قوة ذهن لا تلين، يواجه الصعاب ببُعد نظره وسموّه وجودته وحرّيته وانسجامه وجماله”. وعلى هذا الرأي الذي يطرحه سينيكا بحقه نجد الحكيم الرواقي يتميز بإتقان جميع أفعاله، حيث لا ينفعل ولا يتأثر بالهواجس والانفعالات والحوادث. يتحكم في نفسه بفضل عدم ارتكابه للخطيئة. فهو ليس شخصًا عاطفياً، بل هو سيدٌ لانفعالاته، ومن ثم لا يشعر بالحسد أو الشفقة، ولا يمسه الحزن. يقول عنه إبكتيتوس الحكيم “لا يتأثر بشيء: لا يحسُّ ألماً، ولا يستشعر شجناً، ولا يعرف هماً، ولا يساور قلبَه وجلٌ ولا أسف ولا رجاء. بل هو ماهر في كل فن وصنعة وعليم بالأمور الإلهيّة والإنسانيّة كلها لأنّه من طينة الآلهة ولا يغفل عن التفكير بكل ما يربطنا بها. فهو كالنموذج الفريد وعلى كل إنسان أن يُقارِن نفسه به دون انقطاع”.
الحكيم الرواقي يعيش في حرية تامة من الألم والمآسي والرغبات والشهوات، ويتبع إرادته الداخلية ويسيطر على نفسه. فضلا عن ذلك، يتمتع بالحكمة، وهي استقامة العقل وكماله، حيث تبقى حكمته محفوظة ولا يمكن للهذيان والكآبة والأوهام والنشوة أن تنتزعها منه مهما تعرضت حواسه وخياله لتلك الآفات. ومع ذلك، يرون أن الحكمة بعيدة المنال وصعبة التحقيق. فهي لا تُمنح مباشرة من الطبيعة، بل تتطلب الالتزام بنظام مستمر وبذل جهود فعّالة للابتعاد عن الأهواء والعيش في تناغم مع العقل والطبيعة، وقبول صعوبات الحياة والمصير، وتجاوز الأشياء الدنيئة وسفالة البشر. وعليه يقول الامبراطور أوريليوس “وحده الإنسان حسن التربية مرافقة الحكماء” بمعنى آخر الإنسان من دون مرافقة الحكيم والتشبه به لا يكون سوى عاجز عن الاستقامة، كون الحكماء عددهم قليل جداً، فالحكيم كالعنقاء لا وجود له إلا كل خمسمئة عام. في الحقيقة لم نعثر على صورة الحكيم الرواقي في الفلسفة والأدب اليوناني السابق، أي قبل ظهور الرواقيين. فهذه الفكرة لم تكن جزءاً من التراث الفلسفي الأصلي لليونان، بل دخلت إلى اليونان قبل ظهور الرواقيين بقليل أي عن طريق المدرسة الكلبية. بمعنى لم تتسرّب إلى بلاد اليونان إلا قبل الرواقيين بقليل، فهي فكرة غريبة بالنسبة لسقراط وأفلاطون وأرسطو، وإن تصور طريقة عيش حياة هذا الحكيم الضابط لنفسه كما يُبديها لنا أهل الرواق تشبه كائناً صناعياً متميزاً بعقله على حساب الروح والعواطف.
ومع ذلك، فإن الإنسان ليس بهذه الطريقة. إنه مزيج من العقل والوجدان والعواطف. على سبيل المثال، كان أفلاطون يرى أن العقل يتكون من جزئين: الحصان والعربة، حيث يمثل الحصان العواطف والعربة تمثل العواطف. ولا تتحقق سعادته الأرضية إلا من خلال توازن هذه العناصر وتحقيق وسطية بينها، تسميها الرواقية محايدة حيث ينتج عن ذلك السعادة. وهذا هو جوهر الحكمة الرواقي.